في الوقت الذي كان يمنع فيلم #سبيلبرغ في بيروت، فنعيش أسوأ لحظاتنا الثقافية في ظل تنامي قمح الحريات والرقابة على الابداع ؛ كانت الكويت، التي طالما عرفت بفضلها في نشر الكتب والمجلات العلمية وترجمتها موفرة للقارئ العربي مادة رصينة بالمجان تقريباً؛ تعقد برعاية المجلس الوطني للثقافة الكويتي: ندوة “اقتصاديات الثقافة وأهميتها كقاطرة للتنمية”، للبحث في دور الثقافة في التنمية لأن بإمكانها أن تدر ملايين الدولارات بل ملياراتها سنوياً في البلدان عبر السياحة وصناعة الكتب والموضة والفن؛ فالثقافة خادمة التنمية ولا ثقافة دون تنمية ولا تنمية دون اقتصاد. وذلك في معرض نقد المواد التي تتعامل مع الثقافة كعالة على المجتمع أو كالطفل الذي يحتاج الى رعاية، في الدساتير العربية، جاعلين موازناتها في ذيل القائمة.
وهكذا نجد انه في حين يذهب الخليجيون نحو ممارسة ديموقراطية المعرفة مشددين على دور الثقافة في النهوض الاقتصادي ودور القطاع الخاص في اطلاق دينامية ثقافية بعيدا عن هيمنة السلطة السياسية، ورفع شعار “الحرية أولاً”. وفي حين تفتح دور السينما في السعودية؛ يذهب لبنان في اتجاه تضييق الخناق على الصحافيين والكتاب والمبدعين والفنانين وحتى السياسيين. الرأي صار جريمة تعاقبه السلطة؛ وكأن لبنان لم يكن يوما في طليعة النهضة العربية ومركز احتضان الحرية والابداع. انه انقلاب على النموذج الذي طالما شكله لبنان وتطلعت اليه النخب العربية.
ان الرقابة العشوائية الممارسة أمر خطير ومرفوض. لبنان ليس دولة شمولية انه بلد الحريات التي يكفلها الدستور والممارسة والعرف . والدولة القوية هي الدولة التي تحترم الحريات وليس العكس؛ لانها عند ذلك تصبح دولة أمنية.
مشهد آخر من الفيلم.
فكيف يمكن لشخص، مهما علا شأنه السياسي أو الاجتماعي، او لحفنة من الاشخاص، ان تقرر للبناني ما الذي يمكنه مشاهدته او قراءته او كتابته؟ هل اللبناني قاصر؟ وما الذي يتميز به الرقيب كي يقرر عنا جميعا ولنا؟
من لديه رأي او وجهة نظر يعرضها ومن يريد اتباعه فليفعل بكامل ارادته. لا يمكن لأحد اخضاع الآخرين لرأيه سواء بذرائع دينية او ايديولوجية او وطنية…
نحن راشدون بالغون ولسنا بحاجة الى اوصياء من اي نوع .
مع ذلك يظل السؤال ما الذي حدا بأمين عام “حزب الله” ان يتدخل في هذه المسألة شخصياً ؟
بالطبع فيلم سبيلبرغ “ذا بوست” لا يتناسب مع التوجه القمعي للسلطة الامنية التي تحاول ان تترسخ؛ فهو يفضح ويدين الرقابة ويعطينا درساً عبر تجربة “الواشنطن بوست” مع وثائق فيتنام عن دور الاعلام وعن الحدود بين الامن القومي والحرية ودور الصحافة في مواجهة السلطة.
الدرس هنا ان دور الصحافة خدمة المحكومين وليس الحكام. لكن هل هذا وحده يا ترى ما ازعج السيد حسن نصرالله فأراد تحريم عرض الفيلم؟ رغم أنه يدين في الوقت عينه السياسة الاميركية التي يدينها ايضاً السيد نصرالله !! والفيلم يتهم مباشرة أربعة رؤساء اميركيين ويفضح كذبهم ويسأل بأي حق يقرر شخص واحد عن أمة بأكملها؟
ام ان وراء الأكمة ما وراءها! وأن ما ازعج “حزب الله” على لسان أمينه العام، الذي يجهل اسم المخرج ووجوده على الارجح، هو الدرس الاخلاقي الكامن خلف الازمة من أصلها. انه سؤال “دان” البديهي العفوي والاخلاقي: هل يحق لمن هو في السلطة ان يتابع حرباً يعرف منذ 6 سنوات انها خاسرة؟ وانه لم يوقفها كي لا تفقد اميركا كبرياءها ؟ متسبباً بمقتل المئات من الجنود الاميركيين دون جدوى (نلاحظ هنا اغفال الفيلم الضحايا الفيتناميين)!
المسألة متعلقة اذاً وأساساً بالاخلاق وبكذب الحاكم على شعبه وكي لا يقال انه هو من اوقف الحرب وخسرها فيخسر كبرياءه وكبرياء اميركا!
اعتقد ان هذه المسألة الاخلاقية هي التي تشكل تحدياً جوهريا لحزب الله لأنه يعلم ان حربه في سوريا التي “انتصر” فيها منذ 5 سنوات! ومع ذلك لا يزال يرسل مئات الشبان المساكين والمساقين – اما عقائديا واما بسبب الحاجة – الى حتفهم او الى اعاقاتهم سواء الجسدية او النفسية، من اجل كبرياء وسلطة الولي الفقيه وأمن نظامه.
الحرب السورية الخاسرة والتي لا طائل منها، والمرفوضة من الشعب الايراني قبل غيره، دفاعاً عن مستبد صغير خائن لشعبه ووطنه، سلمه لجميع انواع الاحتلالات.
انه السؤال الاخلاقي الذي يثيره لدينا فيلم سبيلبرغ، هو السؤال المزعج والذي يحسب حسابه ان ليس عاجلاً فآجلاً. وهو الذي سيحاسبه التاريخ عليه اذا لم يحاسبه الداخل، سواء اللبناني او الايراني، كما في الفيلم.
فآلاف الضحايا وملايين المشردين سيظلون شهوداً يدينون هذه الحرب ومسببيها والقائمين بها والمدافعين عنها.