أولاً: النائب اللبناني مطلع خمسينيات القرن الماضي
يُحدّث أحد سماسرة الانتخابات الأديب اللبناني مارون عبّود عام ١٩٥١ عن مزايا النائب في البرلمان والتي لا تُضاهيها مزية أو مرتبة أخرى ،ما دام المعاش الشهري ألف ليرة (يوازي حينها ثلاثمائة دولار، وهو مبلغ ضخم تلك الأيام)، والخدمة حُرّة! حضرت الجلسة كان به، وإلاّ فليس من يطالبك، ولا من يُجبرك على الحضور، أي موظف في الدنيا حرّ مثل النائب؟ يضيف السمسار متسائلاً، ويستطرد:
النائب حاكم إقطاعي، يده مطلقة في المنطقة، إذا مدّ نائبٌ آخر أو موظف مهما كبر، يده إليها يقطعها من الكوع، الحكومة معرّضة للهزّات كل يوم، أمّا النائب فيفعل ما يريد في ظلّ الحصانة، يد القضاء قصيرة عنه.
إيه! عظيمة النيابة عندنا...كلها منافع مثل زيت الغار...تقف الناس على أبوابك وينتظرون في الدار ساعات حتى يصبّحوا جنابك ويمشوا في ركابك، وإن وفّق الله وصرت صاحب معالي، فهناك العلا والعزّ...تكون مطلق اليد في مقدرات البلاد، الضيعة التي كانت عليك تحرمها من كلّ المنافع، وتعطي "زلمك" أين كانوا، وهكذا تدحش مؤيّديك، وتكحش معارضيك، وإذا تعذّر العزل، تستطيع النقل والنفي والابعاد، تُرقّي من تشاء وتحمي من تريد، تعطي من مال الدولة ومنافعها من تشاء، وإذا مشيت بين أعوانك، فأي ديك حبشٍ يضاهيك؟ تُسلّح الجدعان ليمشوا خلفك وقُدّامك، وإذا شئت أن تركب، فما عليك إلاّ أن تزور أقرب قرية من مقاطعتك فتركب حميراً بلا براذع.
إقرأ أيضًا: أيها الناخبون ... أعيرونا أصواتكم مع ضمائركم ساعةً من نهار
ثانياً: النائب اللبناني في أيامنا هذه
من أيام مارون عبود عام ١٩٥١ وحتى يومنا هذا بعض المفارقات والموافقات، فقد بات النائب اللبناني اليوم يتقاضى راتباً شهرياً يوازي ثمانية آلاف دولار (ما عدا البدلات الإضافية)، في حين كان أيام الأديب عبود حوالي ألف ليرة لبنانية( ما يوازي ثلاثمائة دولار بعملة تلك الأيام)، إلاّ أنّ النائب في أيامنا (بخلاف أيام عبود) ليس مضطرّاً لأن تقف الناس على أبوابه، ذلك أنّها موصدة ومُحكمة الإغلاق بالأسلاك الشائكة والحرّاس المتجهّمين المدجّجين بالسلاح، إلاّ أنّه مازال يحتفظ بسجية معاقبة معارضيه، وتقريب مواليه وأزلامه، وما زال على دأبه في تزويد أنصاره ببطاقات التوصية إلى كلّ مكان، وما زال إذا ترقّى إلى مصاف الزعامة أو الوزارة أن يرفع من يشاء ويطرد من يشاء، ومن ثمّ يعطي من مال الدولة ومنافعها من يشاء، ويحرم من يشاء، وما زال مُحافظاً على تقاليد النيابة والزعامة منذ أكثر من نصف قرن، يمشي بين أعوانه، ولا يضاهيه أيّ ديك حبش! يُسلّح الأنصار والمحازبين ليمشوا خلفه وقدّامه، مع الإعلام المستجدّ ( وهذا لم يكن قد استُحدث أيام عبود)، وما زال وللأسف الشديد، يجد حميراً (بلا براذع) يُسهّلون له امتطاء ظهورهم عن طيب خاطر وحُسن طويّة.
ما أشبه اليوم بالبارحة، وللّه في خلقه شؤون.