دخلت الأزمة بين الرئيسين ميشال عون ونبيه برّي منعطفاً جديداً من التصعيد السياسي والدستوري، بعد «حرب المؤتمرات» التي أشعلها الوزيران جبران باسيل وعلي حسن خليل.
الكلام على جانبَي المواجهة كان عالي السقف.
أعدّ باسيل لمؤتمره أمس، دعوةً للتوجّه نحو الدولة المدنية، في ظلّ ارتفاع منسوب الخطاب الطائفي الذي يسود البلاد هذه الأيام، تحت عنوان «حقوق الطوائف». وذكّر باسيل بالمادة 95 من الدستور (إلغاء الطائفية السياسية) التي لم تُطبّق، والتي جرى إهمالها طوال السنوات الماضية، وبدل ذلك انتقت القوى السيّاسية من «الإصلاحات» التي حدّدها اتفاق الطائف، بند اللامركزية الإدارية الموسّعة، وأسقطت إلغاء الطائفية السياسيّة التي تسبق اللامركزية على سلّم الإصلاحات السياسية بأشواط، في الطائف نفسه.
كلام باسيل فتح نقاشاً جديداً بالحديث عن الدولة المدنية و«اختراع» اللامذهبية السياسيّة. إلّا أن مواقف وزير الخارجية، وإن حملت نَفَساً تصعيدياً، فإنّها أيضاً أضاءت على عمق الأزمة المقبلة في البلاد، قبل الانتخابات وبعدها، حيال الدستور والطائف وطبيعة النظام السياسي برمّته. فالمسألة تعدّت الخلاف على مرسوم الأقدمية وعلى التعديلات في قانون الانتخاب. شيئاً فشيئاً، بدأ يتبلور في البلاد الصراع المقبل على النظام السياسي. هذا لا يعني بالضرورة أن يتخذ الصراع أشكالاً أخرى غير التراشق الإعلامي. فالصراع «مضبوط» حتى الآن، على ما تقول مصادر وزارية بارزة لـ«الأخبار». تقتنع المصادر بأن التراشق الحالي إذا زاد عن حدّه، سيتحوّل بحدّ ذاته إلى باب لإعادة التواصل والنقاش بالمسائل بهدوء حيال الخلافات الحالية والنظام السياسي، على قاعدة «إن ما كبرت ما بتصغر». وتقرأ المصادر حرص الطرفين، حركة أمل والتيار الوطني الحرّ، على الإشارة دائماً إلى أن السجالات الحالية لن تؤثّر على التحالفات الانتخابية في بعض الدوائر بين الطرفين، دليلاً على وجود نوافذ مفتوحة للحلول في أي لحظة، مهما ارتفع سقف الخطاب.
في مؤتمره الصحافي، دافع باسيل عمّا سماه «الاتهام بالانقلاب على الدستور»، مؤكّداً أن «هذا الاتهام لا يوجّه إلى الملتزمين بالأعراف القائمة والملتزمين بالدستور»، لكّنه غمز من قناة وزارة المال، مؤكّداً أن «أول أمر قائم وواضح في الدستور هو عدم تخصيص أي وظيفة لأي طائفة»، مشيراً إلى أنه «عند تشكيل الحكومة وقع التثبيت، وتحولت المداورة الى تثبيت، والآن يجري الحديث عن تخصيص وزارات لطوائف».
وحول الدولة المدنية التي دعا إليها في سياق المؤتمر الصحافي، عاد باسيل وأكّد أنه «طالما أنه لا استعداد لدى الأكثرية للانتقال الى الدولة المدنية، فنحن نقترح مرحلياً فكرة... نقترح إلغاء المذهبية السياسية، على الأقل نحافظ على المناصفة بين المسلمين والمسيحيين». وهنا يقدّم باسيل طرحاً جديداً، بحيث إن الحديث عن إلغاء المذهبيّة السياسيّة، سيحوّل التنازع على المواقع، من تجاذب إسلامي ــ مسيحي، إلى تجاذب سنّي ــ شيعي ــ درزي، وماروني ــ أرثوذكسي ــ كاثوليكي. وأضاف: «الدولة المدنية لا تقوم فقط في قانون الانتخاب، الدولة المدنية تقوم في الأحوال الشخصية، وفي كل وجوه الحياة نطبق الدولة المدنية ونحن لها جاهزون. ومن الواضح أن هناك أناساً غير جاهزين لها».
لم يتأخر خليل في الردّ على مؤتمر وزير الخارجية، فبدأ كلامه بالتأكيد على أن «الدستور ضمانتنا، لكن الدستور لا يتكيف وفق الأهواء السياسية، وهو ليس وجهة نظر، ولا يخضع لتفسير من غير صاحب الحق بالتفسير». وردّ على باسيل، من دون أن يسمّيه، قائلاً: «سمعت أحد المسؤولين اليوم يتحدث عن تفسير المادة 95 من الدستور، وهو تفسير يعيدنا 27 سنة إلى الوراء». وأكّد أن «الرئيس نبيه بري ونحن في حركة أمل، وافقنا عن قناعة وعن التزام وطني على التوزيع الطائفي لكثير من المواقع الإدارية لأن فيه طمأنة للمسيحيين، ليس من موقع قوة أو من موقع ضعف»، ملمّحاً إلى قيادة الجيش وحاكمية مصرف لبنان. وأشار إلى أنه «لا نستطيع تفسير الدستور على طريقة المفتين الجدد الذين هم في موقع مسؤولية اليوم، وقد ورطوا العهد»، لافتاً إلى أنه «لا نستطيع الحديث عن دولة مدنية، بينما نذهب إلى تجاوز الكفاءة ونلغي دور مجلس الخدمة، وأن نلغي فرصة الذين لا سند لهم ويعتمدون على كفاءتهم من خلال مجلس الخدمة».
وحول الدولة المدنية، ذكّر خليل بخطاب الشيخ محمد مهدي شمس الدين، ودعوته إلى الدولة المدنية، ولاحقاً ما طرحه بري على طاولة الحوار الأخيرة، داعياً إلى «الذهاب مباشرة إلى وضع إلغاء الطائفية السياسية موضع التنفيذ». وطالب بأن «يبعث فخامة رئيس الجمهورية برسالة مباشرة إلى مجلس النواب لتطبيق المادة 95 من الدستور، حتى نكون جديين»، مشيراً إلى أنه «نحن لا نبحث بوجود المسيحيين في هذا البلد من منطلق الأعداد والأرقام، ونحن لا نقبل أبداً أن نتعاطى وفق هذا المنطق، والرئيس بري على طاولة الحوار كان أجرأ بكثير بالوقوف إلى جانب المسيحيين وتمسّكه بالمناصفة، أكثر ممن يدّعون التحدث باسمهم اليوم».
وفي معرض حديثه عن مجلس الخدمة المدنية وآلية التعيينات المعتمدة في مجلس الوزراء، توجّه خليل إلى رئيس الحكومة بالسؤال: «هل يريد الحفاظ على هذه المؤسسات أم يريد المشاركة في ضربها؟».
من جهة ثانية، لم تعمّر جلسة اللجنة الانتخابية المخصّصة لتطبيق قانون الانتخاب أكثر من عشر دقائق، بعدما سأل الحريري الحاضرين عمّن يؤيّد إدخال تعديلات على قانون الانتخاب، وأتى جواب الأكثرية بالميل نحو عدم المسّ بالقانون والتوجّه نحو الانتخابات. مسألة أخرى جرى الحديث عنها، وهي كيفية إيجاد مخرج للمغتربين الذين سجّلوا أسماءهم في بعض المدن للاقتراع ولا يتجاوز عددهم المئتين، بما يمنع بحسب القانون فتح مراكز انتخابية لهم، وبعضهم يبعد عن أقرب مركز انتخابي ما لا يقلّ عن 5 ساعات.