لم تحمل الأجواء في اليوم الأول لمفاوضات جنيف 9 التي تعقد هذه المرة في العاصمة النمساوية، ما يمكن أن يكون مادة لتحوّل نوعي في مسار العملية السياسية في سوريا.
فقد اعتبر المراقبون أن هذه المفاوضات، التي من المقرر أن تنتهي الجمعة بحسب دعوة المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، ستحافظ على طابعها الروتيني الإعلامي، وأن لا مؤشرات توحي بغير ذلك، وأن حصول مفاجآت في اللحظات الأخيرة أمر غير محتمل.
وعادت الوفود السورية هذه المرة إلى فيينا بعد نحو شهر من فشل جولة محادثات سابقة عقدت في جنيف، في إحراز أي تقدم لحل النزاع المستمر في البلاد منذ نحو سبع سنوات.
ولم يشكل وصول وفدي النظام والمعارضة الأربعاء إلى العاصمة النمساوية دون أي تأخير أي حافز لإطلاق تكهنات إيجابية مقارنة باللغط الذي دار حول حضور وفد النظام في جولة المفاوضات السابقة بجنيف.
الحفاظ على مسار جنيف
يجمع الخبراء المعنيون بالشأن السوري على أن المجموعة الدولية تسعى للمحافظة على المسار الأممي الوحيد للأزمة في سوريا من خلال مقاربة جنيف، وأن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس والمبعوث الأممي إلى سوريا متمسكان بـ”خيار جنيف” بصفته المرجع الأول والأخير لأي شرعية دولية يتظلل تحتها أي اتفاق ينتج عن مفاوضات الفرقاء السوريين.
ويضيف هؤلاء أن المسعى الأممي مدعوم من قبل واشنطن والاتحاد الأوروبي، وهو ما عبّرت عنه باريس بالتذكير بأن طريق خلاص سوريا يمر عبر عملية جنيف في غمز من قناة المؤتمر المزمع عقده أواخر الشهر الجاري في منتجع سوتشي في روسيا.
وقال وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان أمام الجمعية الوطنية الفرنسية في هذا الصدد، إنه “ليس هناك اليوم أي أفق لحل سياسي سوى الاجتماع الذي سيعقد برعاية الأمم المتحدة في فيينا بمشاركة جميع الفرقاء الفاعلين، حيث آمل بأن يتم وضع خطة للسلام”.
وقال وزير الخارجية الفرنسي إن محادثات فيينا ستشكل “الفرصة الأخيرة” لإيجاد حل سياسي للنزاع الذي تشهده سوريا منذ 2011.
وترى مصادر دبلوماسية أن سباقا خفيا يجري بين المقاربة الروسية من خلال مؤتمر سوتشي المزمع عقده في ذلك المنتجع في 29 و30 يناير من الشهر الجاري، وبين مقاربة جنيف الأممية، لا سيما وأنه وبحسب المعلومات المتوفرة، فإن القضايا الدستورية المفترض أنها من اختصاص جنيف ستكون حاضرة في أعمال المؤتمر في المنتجع الروسي الشهير.
أجواء سوتشي حاضرة في فيينا والكثير من جوانب نجاح وفشل المؤتمر الروسي مرتبط بأجواء المؤتمرين في جنيف 9
وتتحدث المعلومات الواردة من العاصمة السورية دمشق عن أن وفد النظام المفاوض لا يحمل جديدا إلى فيينا يختلف عن ذلك الذي ظهر في محطات جنيف السابقة، وأن المشاركة السورية ستؤكد ثوابت النظام السوري في الملفات المتعلقة بالانتقال السياسي ومصير الرئيس بشار الأسد، وسيعيد الوفد تكرار حججه السابقة بما فيها فرض سحب بيان الهيئة العليا للتفاوض الذي أثار موضوع مستقبل الحكم دون الأسد.
وكان رئيس وفد النظام بشار الجعفري قد رفض في جنيف 8 السابق التفاوض المباشر احتجاجا على البيان الصادر عن الاجتماع الذي كان الثاني من نوعه.
وحينها قال الجعفري إن وفد النظام لم يكن يرغب في أن تفشل المحادثات لكن المعارضة وضعت شرطا مسبقا في بيان ختامي لمؤتمر “الرياض 2” الذي قالت فيه إن على الأسد الرحيل مع بدء المرحلة الانتقالية.
وقد رأى دي ميستورا حينها أن إصرار وفد النظام على أن تسحب المعارضة البيان المذكور “ليس منطقيا” (..) لأن ذلك بدا لي وكأنه شرط مسبق. لم تشارك الحكومة معي في مناقشات إلا عن الإرهاب. في الحقيقة لم يقبلوا بالحديث عن أي موضوع سوى هذا”.
وانسحبت لهجة التشاؤم التي عبر عنها وزير الخارجية الفرنسي أيضا على تصريحات دي ميستورا نفسه الذي أعلن عشية المحادثات أن محادثات السلام السورية في فيينا تأتي في “مرحلة حرجة جدا”، قبل أن يصوّب سوداوية تصريحاته بصيغة دبلوماسية أخرى قال فيها إنه “بالطبع أنا متفائل لأنه لا يسعني أن أكون غير ذلك في مثل هذه اللحظات”، مضيفا “أنها مرحلة حرجة جدا جدا”.
لكن مراجع دبلوماسية أوروبية مراقبة قالت إنه يجب عدم التعويل كثيرا على الضوضاء التي ستحدث في فيينا والمواقف التي ستصدر من كافة الأطراف. وأضافت أن ما سيخرج عن وفد النظام كما عن وفد المعارضة لا يعدو كونه للاستهلاك الإعلامي داخل هذا المنبر الدولي المناسب لإطلاق المواقف والرسائل بكافة الاتجاهات وأن الجميع، وفود التفاوض ودي ميستورا كما عواصم القرار الكبرى، مدرك أن الظروف الدولية لم تنضج لإعطاء دفعات جدية للعبور نحو مسار التسوية.
تباين المواقف
في ثماني جولات من المفاوضات في جنيف، اصطدم النقاش بالخلاف حول مصير الرئيس بشار الأسد، وهو بند اشترط الوفد الحكومي في الجولة الأخيرة الشهر الماضي سحبه من التداول لتحقيق تقدم في المفاوضات. وتطالب الأمم المتحدة طرفي النزاع بعدم فرض أي شروط مسبقة لضمان إحراز تقدم فعلي.
وبدا للمراقبين أن أجواء سوتشي حاضرة في فيينا وأن الكثير من جوانب نجاح وفشل المؤتمر الروسي مرتبط بأجواء المؤتمرين في العاصمة النمساوية.
ورغم أن موسكو حريصة على التأكيد على أن مؤتمر سوتشي لا يشكل مبادرة منافسة لتلك التي ترعاها الأمم المتحدة، إلا أن مصادر دبلوماسية أميركية قالت في واشنطن إن الإدارة الأميركية تراقب عن كثب الورشة الدبلوماسية الروسية في المنتجع الروسي خصوصا لجهة جدول الأعمال الذي قد يكون هدفه الالتفاف على جنيف.
والظاهر أن هذا الجانب هو السبب وراء عدم حسم هيئة التفاوض المعارضة بعد موقفها النهائي من المشاركة في مؤتمر سوتشي. وقد ربطت أمر مشاركتها بنتائج المحادثات التي ستجري في فيننا.
وقال رئيس هيئة التفاوض السورية نصر الحريري في هذا الصدد عشية بدء المحادثات في فيينا “إن هذين اليومين سيكونان اختبارا حقيقيا (..) لجدية كل الأطراف لإيجاد حل سياسي”.
أين طريق الحل
وأوضح المتحدث باسم هيئة التفاوض السورية يحيى العريضي “أن هناك استحقاقا تسعى موسكو إلى القيام به ولا اعتقد إطلاقا أن سوتشي يمكن أن يصادر جنيف إذا كان هناك بحث حقيقي عن حل في سوريا”.
وأوضح العريضي أن “مؤتمر سوتشي يتناول نقطة واحدة تتعلق بالدستور، في حين أن القرار الدولي 2254 لا يتحدث عن الدستور فقط، بل يتحدث عن إيجاد بيئة آمنة وموضوعية ومناسبة لإجراء انتخابات، ولا يكون ذلك إلا بإيجاد جسم سياسي يشرف على هذه الأمور برعاية الأمم المتحدة”.
وأشارت مصادر المعارضة إلى أنها ستراقب في فيينا مدى جدية نوايا النظام للتفاوض والبناء على ذلك في تقرير حضور سوتشي من عدمه. وقال نصر الحريري إن جولة المفاوضات الحالية ستوضح جدية جميع الأطراف في العملية السياسية.
وقالت مصادر مقربة من وفد المعارضة في فيينا إن الوفد جاهز في الشكل والمضمون والأوراق المقدمة للدخول الفوري في مفاوضات جدية، وأن رفض وفد النظام الانتقال إلى التفاوض المباشر وبحث الملفات وفق جدول الأعمال الذي أعده المبعوث الدولي، يؤكد من جديد أن النظام مازال غير مؤمن بآلية التفاوض ومازال يعوّل على الخيار العسكري لفرض خياراته بشأن سوريا المستقبل.
وترى المعارضة السورية أن يتم تأسيس حكم انتقالي كامل الصلاحيات، وهو أمر ترفضه روسيا وإيران اللتان تدعمان نظام بشار الأسد، وتفضلان صيغة للتشارك في الحكم الموجود.
وفي ظل تباين مواقف الدول الداعمة للنظام والولايات المتحدة الأميركية التي تطلق تصريحات متباينة، فإن المعارضة متمسكة بالدعوة لاحترام القرار 2254، والتشديد على أن “حكومة الوحدة الوطنية” التي يروج لها النظام وحلفاؤه لن تستطيع أن تحل مكان “هيئة الحكم الانتقالي كاملة الصلاحيات”.
ويرى محللون سياسيون أن اجتماعات فيينا تجري وفق ظروف معقدة، لا سيما تلك التي استجدت بعد أن أعلن وزير الخارجية الأميركية ريكس تيلرسون استراتيجية واشنطن الجديدة في سوريا وتأكيده على بقاء القوات الأميركية في سوريا، كما حملة “غصن الزيتون” التي تشنها تركيا في منطقة عفرين ضد قوات حماية الشعب الكردية، بما يجعل أي مسعى دبلوماسي متعلق بمستقبل سوريا حاليا رهن التوافقات الكبرى التي لم تظهر أعراضها بعد.