استخدمت تركيا معظم أوراقها لحمل الولايات المتحدة وروسيا على إعطائها الضوء الأخضر لعملية «غصن الزيتون» في منطقة عفرين، شمال غربي سورية. نالت عملياً ضوءاً أصفر لن يستغرق طويلاً الوقت حتى يتحوّل أحمر، لأن الخطوط الحمر التي أحيطت بها العملية لا تسمح لأنقرة بتحقيق أهدافها المعلنة، ثم أن المناخ الدولي غير مؤاتٍ راح يلحّ عليها لإنهاء هجومها سريعاً. وضعت تركيا للمرّة الأولى كل علاقاتها الاستراتيجية المزمنة والمستجدّة في الميزان، وعلى رغم أن أحداً لا يصدّق أنها يمكن أن تتخلّى عن حليف كأميركا أو تجازف بموقعها الأطلسي إلا أنها لوّحت بخيارات صعبة «لا رجعة فيها» إذا مُنعت من تنفيذ خططها. ومع أنها لا تريد العودة إلى خصام مكلف مع روسيا إلا أن خدماتها في الملف السوري جمعت لها رصيداً اعتبرته كافياً لإقناع موسكو بدعمها في الخلاص من خطر «حزب العمال الكردستاني» في جيب عفرين، طالما أن اتفاقات آستانة عهدت إليها بضبط الوضع الأمني في إدلب، آخر المناطق المطلوب «خفض التوتّر» فيها بموجب الخطط الروسية.
مع بدء الهجمات التي دُفع فيها بآلاف من مقاتلي الفصائل التركية في «الجيش السوري الحرّ»، لم يعد السياسيّون والعسكريون الأتراك يذكرون منبج التي طالما أكّدوا أن الخطط العسكرية تشملها، وبدا أن أنقرة قدّمت تنازلاً أول بسبب تمسّك الأميركيين بحمايتهم لمنبج وعدم موافقتهم على مدّ السيطرة التركية إليها، إذ كانوا أوقفوا سباقاً إلى المدينة بين قوات النظام والميليشيات الإيرانية الزاحفة إليها من ريف حلب الشمالي وقوات «درع الفرات» الآتية من الباب غرباً. ما لبث الروس أن ارتضوا هذا الوضع وردّوا عليه بإدخال مفاجئ لمراقبين إلى عفرين فأصبحت تحت حمايتهم منذ آذار (مارس) 2017 ثم سحبوهم أخيراً واشترطوا على الأتراك الاكتفاء بمحاصرة المدينة وعدم اجتياحها أو إغارة مقاتلاتهم عليها. هذا تنازل آخر من أنقرة، أما الثالث فهو اضطرارها لغضّ النظر عن استكمال قوات النظام والميليشيات الإيرانية الهجوم على مطار أبو الضهور والسيطرة عليه في شرق إدلب، بعدما كانت طلبت رسمياً من روسيا وإيران وقف ذلك الهجوم لأنه «مخالف» لاتفاقات آستانة.
إذا لم تدخل القوات التركية عفرين ومنبج وتجعلهما جزءاً من منطقة نفوذها فلن يكون هناك انتصار حقيقي يمكن رجب طيب أردوغان أن يعلنه، خصوصاً إذا اضطر لوقف الهجوم من دون أن يتمكّن من إخراج المقاتلين الأكراد من عفرين، وقد تردد أن ثمة ممراً فُتح ليسلكه المنسحبون شرقاً. يشعر الروس والأميركيون بأن ضغوط أردوغان بلغت حدّاً مربكاً، ولا يتوقّعون أن يلتزم الحدود المرسومة له سواء في عفرين أو منبج، بل سيترك للقادة الميدانيين إمكان التوغّل وتجاوز الخطوط الحمر، لكنهم سيترقّبون تورّطه، فهذه الحملة لن تحلّ مشكلته الكردية في سورية، ولا في داخل تركيا وهو الأهم والأخطر. من الواضح أن واشنطن أعلنت أن عفرين لا تعنيها لأنها تقع خارج نطاق عمليات قواتها، وفهمت أنقرة أنها تستطيع التحرّك نحو عفرين فالأميركيون لن يساعدوها ولن يعرقلوها لكنهم لن يسكتوا طويلاً. وهذا أقلّ بكثير مما طمحت إليه.
منذ 2014 تحديداً فقدت تركيا إمكان الحصول على «تفويض» أميركي- أطلسي للتصرف في مناطق شمال سورية، وبعد انتشار «داعش» وإنشاء «التحالف الدولي» لمحاربته راحت تلحّ على دور مشترك مع الولايات المتحدة ولم تحصل عليه. ولعل إصرارها المحموم على عملية عفرين برهن للأميركيين أنهم لم يخطئوا استراتيجياً في عدم إجازة أي دور تركي في سورية، لا لأنه يفاقم التعقيدات الإقليمية للأزمة فحسب، بل لأنه يبطن الفتك بالأكراد. لكن الأميركيين أخطأوا استراتيجياً في إهمال قلق تركيا حين قرروا تسليح أكراد شمال سورية والاعتماد عليهم لمقاتلة «داعش». فهؤلاء المقاتلون في «وحدات حماية الشعب» ثم في «قوات سورية الديموقراطية» (قسد) هم في معظمهم من الجيل الثالث أو الرابع للأكراد الذين هجّرتهم تركيا في حروبها المتواصلة على مناطقهم خلال القرن الماضي، ولم يهتم أي نظام في دمشق بدمجهم وتجنيسهم، مع أنه أقام علاقةً سياسية- عسكرية مع «حزب العمال الكردستاني» واستضاف زعيمه عبدالله أوجلان قبل أن يجبره التهديد التركي على ترحيله إلى روسيا التي كانت ترعاه وتسلّحه، لكنها رحّلته إلى إيطاليا التي رحّلته إلى اليونان التي نقلته إلى سفارتها في نيروبي حيث سلّم إلى الأتراك ولا يزال معتقلاً منذ عام 1999.
لا يجهل الأميركيون هذه الحقائق، ويُفترض أنهم لم يجهلوا حين قرّروا تسليح «حزب الاتحاد الديموقراطي» (الفرع السوري لـ «بي كي كي») أنهم شكّلوا فرصة تاريخية للفرع والأصل المتداخلَين، اللذين ارتبطا بعلاقة مع النظام السوري ومن ثَمَّ مع النظام الإيراني، كما أن التدخّل الروسي في سورية أعاد الروح إلى علاقة «بي كي كي» مع موسكو بعدما كانت ضعفت، لكن الأميركيين كانوا تجاوزوا الجميع عندما حتّمت الظروف أن يدعموا الأكراد لمقاتلة «داعش» وطرده مطلع 2015 من عين العرب- كوباني، بعد معارك شرسة انتهت بتدمير معظم المدينة وبهزيمة أولى مبكرة للتنظيم. استشعر الأتراك هذه العلاقة بين الأميركيين والأكراد بمثابة إنذار أول لما سيكون، خصوصاً بعدما لمسوا ازدياد التداخل بين «بي ي د» و «بي كي كي» (الذي سبق لواشنطن أن صنّفته «إرهاباً»)، وبالأخص بعدما صعّد الأخير هجماته داخل تركيا وسقوط «هدنة» ما كانت تسمّى «عملية السلام»، بالتالي عودة السلطة التركية إلى شنّ الحملات الأمنية في مناطق الأكراد. في غضون ذلك أتاح انتصار «قسد» في الرقّة لـ «بي كي كي» أن يُفصح علناً عن وجوده ودوره الميداني.
لذلك لم يكن كافياً أن يقرّ الوزير الأميركي ريكس تيلرسون أخيراً بضرورة «أخذ مخاوف أنقرة في شأن إرهابيي منظمة «بي كي كي» في الاعتبار»، تحديداً بعد الكشف عن جيش من 30 ألف جندي من «قسد» يعدّه الأميركيون للدفاع عن مناطق شرق الفرات وحراسة حدودها. فبالنسبة إلى أنقرة لا يعني هذا الجيش، إضافة إلى تعهّد بوجود أميركي طويل المدى في شمال سورية ومشاريع لإعادة الإعمار، سوى أن واشنطن ماضية في إقامة «كيان خاص» أو «دولة» للأكراد. لم يكفِ أيضاً أن تحاول واشنطن التقليل من الأمر، فالجنرال الأميركي من «التحالف ضد داعش» تحدّث عن «قوة أمنية حدودية»، وحين احتجّت تركيا ردّ البنتاغون بأنها «قوة سيطرة ميدانية» ثم وصفها تيلرسون بأنها «قوة لحفظ الأمن الداخلي»... وهكذا استنتجت روسيا وسائر الأطراف المعنية (النظام السوري وإيران) أن أميركا اقتطعت لتوّها المناطق التي تهيمن عليها عبر «قسد»، بعدما اقتطعت أيضاً «منطقة خفض التوتر» في جنوب غربي سورية.
لا يعني ذلك أن الأطراف الأخرى تعمل فقط للحفاظ على «وحدة سورية»، بل إن الاستشراس الكيماوي للنظام في الغوطة الشرقية والمنافسة على إدلب وعملية عفرين والتوتّر في «جبهة الساحل» تشير إلى فصولٍ لم تحسم سواء في التجاذب الروسي- الأميركي أو مسلسل تقاسم مناطق النفوذ الدولي والإقليمي في سورية. ولعل اللافت أن تعود واشنطن فجأة إلى طرح إقامة «منطقة آمنة» شمالية بالتعاون مع تركيا. عدا أن إحياء هذه الفكرة يأتي متأخراً ويحتاج إلى تفاهم غير مضمون مع روسيا، فمن المؤكّد أنها لن تحظى بترحيب تركي إذا كانت تتطلّب تعاوناً مع قوات «قسد».
أين نظام بشار الأسد في هذه المعمعة؟ على رغم أن بوصلته الوحيدة الحفاظ على نفسه والمراهنة الدائمة على الوقت معتقداً أن الجميع سيحتاجون إليه في نهاية المطاف، إلا أنه محبط حالياً بالتفاهمات الروسية- التركية في شأن عفرين وإدلب، وكذلك بالإصرار الروسي على مؤتمر سوتشي. اضطر للسكوت بعدما أطلق تهديدات لتركيا بقصف قواتها وإسقاط طائراتها، وأبلغه الروس أن تقدّمه مع الإيرانيين في إدلب سيقتصر على استعادة مطار أبو الضهور. والأكيد أن إحباطه تضاعف بعد المواقف الأميركية الأخيرة، كما أن الاتصالات الأوروبية به انقطعت تماماً.