ليس المخرج الاميركي ستيفن سبيلبرغ من ألمع مخرجي السينما الاميركية، لكنه قد يكون من أشهرهم وأكثرهم شعبية. مهارته في إختيار مواضيع أفلامه، وفي إنتقاء نجومه وممثليه، وفي توقيت إخراج أعماله الى الجمهور، كما أن إيراداته المالية القياسية هي شهادة لا تخطىء على تفوقه المبني على براعته التجارية الفريدة.
في فيلمه الاخير، "ذا بوست"،إختصاراً لإسم صحيفة "واشنطن بوست"، لا يغادر سبيلبرغ مساره الثابت، حيث يقاس النجاح في شباك التذاكر، الذي يفتح في مواسم الاعياد والعطلات الدراسية، ولا يصمد طويلاً في الذاكرة السينمائيةالتي تفيض بالعشرات من أفلامه المنسية في معظمها، عدا بعض العناوين البارزة، مثل فيلم"سارقو التابوت المفقود"أو فيلم "تقرير الاقلية"، أو فيلم "إي تي".. التي ساهمت في تصنيفه واحداً من أهم مخرجي أفلام المغامرات والخيال العلمي، وإن لم يكن أهمهم على الاطلاق.
في ال"بوست"، لا يطلق سبيلبرغ العنان لمخيلته الواسعة، ولا ينجرف في واحدة من مغامراته السينمائية الخطرة. هو يقدم فيلماً "وطنياً"، إذا جاز التوصيف، يستعيد فيه واحدة من أهم مراحل الحياة السياسية الاميركية، في ستينات وسبعينات القرن الماضي، بأسلوب أقرب الى الوثائقي منه الى الدرامي. وقد أنجزه في وقت قياسي لم يتجاوز السبعة أشهر، ولم يتضمن سوى بعض المشاهد واللقطات الخارجية السريعة.
الفيلم أشبه ما يكون ببيان سياسي، يصدر عن مخرج ينتمي الى الحزب الديموقراطي الاميركي ويشعر بالخيبة لخسارة مرشحته هيلاري كلينتون الرئاسة، ويحس بالعار لوجود الرئيس الأخرق دونالد ترامب في البيت الابيض. وهو لذلك إستمد قصة شريطه السينمائي الجديد من الفضيحة السياسية الكبرى التي ساهمت ال"واشنطن بوست" في كشفها، مع صحيفة "نيويورك تايمز"طبعا، أي وثائق البنتاغون الشهيرة عن حرب فيتنام، والتي أمتدت الى فضيحة "ووتر غيت" واسفرت عن إستقالة الرئيس ريتشارد نيكسون من منصبه.
للصحافيين فقط، لاسيما الذين أدركتهم المهنة في تلك الحقبة، وما زالوا في خضمها، يمكن للفيلم ان يكون واحداً من أجمل ما عرض على الشاشة عن الصحافة الاميركية في عزها وفي ذروة نفوذها، وفي تألق دورها في تشكيل الرأي العام الاميركي وبلورة موقفه من حرب فيتنام، وفي الإضاءة على أداء دولة قانون ومؤسسات متقدمة، بل ربما متفوقة.. قدمت للعالم كله نموذجاً باهراً، في تلك الحقبة بالذات.
يعبر سبيلبرغ في فيلمه الجديد عن حنينٍ خاصٍ الى تلك الفترة، او لعله يحرض الصحافة الاميركية، ذات الميول الليبرالية والديموقراطية الغالبة، على الاحتذاء بجرأة ناشرة ال"بوست" كاثرين غراهام، ومدير تحريرها بن برادلي، في نشر الوثائق المحظورة والمضي قدما في معركة إسقاط نيكسون من خلال المحكمة العليا التي انتصرت يومها لحرية الصحافة وسلطتها الرابعة، وأعطت بقرارها التاريخي في حينه الضوء الأخضر للتخلص من مصدر الفضيحة في البيت الابيض.
عدا الصحافيين، والمهتمين بمهنة الصحافة، ومعهم طبعا المستائين من موقف الامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، الذي إكتشف متأخراً جداً ان سبيلبرغ مؤيد قوي لإسرائيل، وطالب بحظر الفيلم وبمقاطعة إفلام المخرج اليهودي الموجودة في الاسواق اللبنانية والعربية منذ ما يقرب من نصف قرن..لن يكون ال"بوست" جذاباً للجمهور العادي، الذي يذهب الى السينما بحثاً عن عناصر الاثارة والتشويق والخيال التي إعتاد سبيلبرغ ان يزين بها أعماله الفنية، ويدفع بها الى مستويات جماهيرية إستثنائية حيناً، والى منحدرات تجارية عميقة أحياناً.
الفيلم وثيقة مسلية، شهادة حية، أنشودة وطنية، تحفز الصحافة الاميركية، وتناشد الرأي العام الاميركي، ألا ينسى تاريخه القريب، وألا يتردد أو يتأخر في محو الفضيحة المتمادية، والمتمثلة بالرئيس الحالي دونالد ترامب.. الذي يتوقع له سبيلبرغ وأميركيون كثيرون مصيراً مشابهاً لمصير نيكسون.