تتعامل الحكومة اللبنانية بجدية تامة مع الإجراءات التي اتخذتها وستتخذها الإدارة الأميركية ضد شبكات تمويل حزب الله في العالم. ووجهت واشنطن رسالة صارمة في هذا الملف عبر مساعد وزير الخزانة الأميركي لشؤون مكافحة تمويل الإرهاب مارشال بيلينغسلي الذي أكد من بيروت أن على لبنان أن يبعد حزب الله عن القطاع المالي، مشددا على أهمية التصدي لأنشطة إيران.
تأتي زيارة بيلينغسلي إلى لبنان بعد أسبوعين من بدء واشنطن مساعي جديدة لتجفيف منابع التمويل العالمية لحزب الله، وغداة صدور تحقيق استقصائي أضر بسمعة واشنطن في الداخل والخارج، حين كشف عن أن إدارة الرئيس السابق باراك أوباما غضت الطرف عن تبييض حزب الله للأموال ونشاطه في تجارة المخدرات مقابل توقيع الاتفاق النووي مع إيران.
وخلال الزيارة، التقى المسؤول الأميركي الرئيس اللبناني ميشال عون ورئيس الحكومة، سعد الحريري، ورئيس مجلس النواب، نبيه بري، ووزير المالية، علي حسن خليل، وحاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، ورئيس لجنة الرقابة على المصارف، سمير حمود، وجمعية مصارف لبنان واتحاد المصارف العربية.
وتكشف صورة اللقاء والأسماء التي قابلها المسؤول الأميركي صعوبة الملف وتعقيداته وتناقضاته، فعون وبري اللذان أكدا على أن “لبنان يحارب بفعالية غسيل الأموال في لبنان”، من حلفاء حزب الله.
وقال عون في بيان نشرته الرئاسة إن “لبنان يشارك بفعالية في الجهود العالمية الهادفة إلى مكافحة تمويل الإرهاب وتبييض الأموال”. وإثر لقائه بالمسؤول الأميركي، قال رئيس البرلمان نبيه بري إن “لبنان دولة تتطابق مع أعلى المعايير القانونية الدولية لجهة نقل الأموال والحركة المالية ومكافحة تمويل الإرهاب”.
وحث بيلينغسلي لبنان على “اتخاذ كل الإجراءات الممكنة لضمان ألا يكون حزب الله جزءا من القطاع المالي”، ورد بري، الذي سبق وأن قال قبل أيام من لقائه بيلينغسلي، “إن شاء الله الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله وأنا، جسدان في قلب واحد”، وأضاف أن “اللبنانيين بانتشارهم الواسع، وتجارتهم حيث هم، ومع لبنان يحرصون بأدائهم على تطبيق هذه المعايير”.
كما سبق وقال بري، خلال لقاء جمعه بمستشار المرشد الأعلى في إيران علي أكبر ولايتي، “إيران كانت وما زالت الأساس والقلب النابض للمقاومة”، وأن “العلاقة الأخوية بين حركة أمل وحزب الله مثال يحتذى به”.
ويكشف هذا التناقض في التصريحات إلى أي مدى تبدو إستراتيجية مواجهة حزب الله من الداخل اللبناني صعبة، وهو الذي يسيطر على مؤسسات القرار في البلاد، ويضع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي أمام معضلة الفصل بين الدولة “والدويلة”.
مارشال بيلينغسلي: يجب اتخاذ كل الإجراءات لضمان ألا يكون حزب الله جزءا من القطاع المالي
تهديدات مبطنة
خلال لقائه مع الرئيس اللبناني ميشال عون ورئيس الوزراء سعد الحريري وشخصيات مصرفية وسياسية أخرى قال بيلينغسلي إن الحكومة الأميركية ملتزمة بالعمل مع لبنان لحماية نظامه المالي ودعم “لبنان قوي ومستقر ومزدهر”، لكن هذا يحتاج إلى تظافر الجهود في الداخل والخارج، وعدم تحميل دولة لبنان أكثر من طاقتها في هذا الملف؛ فرغبة الكثير من الجهات في النأي بالقطاع المصرفي والاقتصاد اللبناني عن حزب الله كخطوة نحو حماية البلاد منه ومن سياسته تصطدم بنفوذ الحزب الذي يستمده من انقسامات المشهد السياسي.
وتؤكد جهات لبنانية مطلعة أن كافة الوزارات المعنية في بيروت استنفرت للإصغاء إلى ما يحمله نائب وزير الخزينة الأميركي في زيارته التي وصفت بأنها مفاجئة إلى العاصمة اللبنانية. وأضافت هذه الجهات أنه رغم التهديدات المبطنة التي تحملها زيارة الموفد الأميركي إلا أن بيروت ارتاحت إلى ما صدر عن السفارة الأميركية في بيروت من حرص على النظام المصرفي اللبناني.
وقال بيان السفارة إن المسؤول الأميركي “شدد على أهمية مكافحة النشاط الإيراني المؤذي في لبنان، وكيفية التزام الولايات المتحدة بمساعدته على حماية نظامه المالي من حزب الله وتنظيم داعش ومنظمات إرهابية أخرى”. وأضاف البيان أن قانون “منع التمويل الدولي لحزب الله لا يستهدف الطائفة الشيعية، إنما يستهدف الأنشطة المالية لحزب الله في جميع أنحاء العالم”.
وتسعى الحكومة اللبنانية إلى توفير كافة الحجج للدفاع عن النظام المصرفي اللبناني الذي ما زال يتمتع بسمعة دولية عالية على الرغم من الاتهامات، الأميركية خصوصا، باستخدام حزب الله لبعض المصارف اللبنانية لتمرير تمويلاته المشبوهة الواردة من العالم.
وكانت الإدارة الأميركية شكلت في 11 يناير الجاري، وحدة خاصة للتحقيق بشأن تمويل حزب الله. والوحدة الأميركية مكلفة بالتحقيق حول ما تقول الولايات المتحدة إنهم أفراد وشبكات تقدم دعما للحزب، الذي تعتبره واشنطن “منظمة إرهابية”.
واستدعت هذه الاتهامات الموجهة ضد الحزب تدخل أمينه العام السيد حسن نصرالله الذي قال إنها “اتهامات ظالمة لا تستند إلى أي وقائع وليس لها أي حقيقة”، مؤكدا أن “التورط في ميدان المخدرات زراعة وتهريبا وما شابه ذلك من المحرمات التي ينهى عنها الدين”.
غير أن المصادر الأميركية تتحدث عن أدلة ووثائق وعمليات توقيف جرت في أوروبا وأميركا اللاتينية والولايات المتحدة لأشخاص متورطين مباشرة بشبكات تهريب المخدرات الدولية والمرتبطة مباشرة بحزب الله.
وتضيف المصادر أن الحكومة الأميركية الحريصة على منعة الاقتصاد اللبناني وعلى قوة النظام المصرفي توجهت إلى الحكومة اللبنانية بشكل رسمي لإطلاعها على ما تملكه من معلومات ومعطيات قد تطال مؤسسات مصرفية ومالية متواطئة في لبنان. والهدف من ذلك هو حثّ بيروت على اتخاذ الإجراءات التي تحول دون أن تضطر واشنطن لاتخاذ إجراءات ضد بعض المصارف، ما من شأنه التأثير على النظام المصرفي اللبناني برمته.
الأزمة بين الحزب والمصارف اللبنانية استدعت اجتماعات بين وفود من الحزب وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي كالت له منابر قريبة من الحزب اتهامات بالتضييق المالي على حزب الله
حجج دامغة
وقعت أزمة ثقة في السنوات الأخيرة بين واشنطن وبيروت حول دور النظام المصرفي في تسهيل أعمال الشبكات المالية لحزب الله. وسبق لمسؤولين من وزارة الخزينة والعدل أن زاروا بيروت وناقشوا الأمر مع المسؤولين السياسيين والمصرفيين اللبنانيين، كما استدعى الأمر زيارة وفود برلمانية ووزارية ومصرفية لبنانية لواشنطن بغية الاجتماع مع المسؤولين الأميركيين المعنيين. وقد شملت اللقاءات أيضا في العاصمة الأميركية مسؤولين من صندوق النقد والبنك الدوليين.
وكان حزب الله انتقد بشدة الإجراءات التي تتخذها المصارف اللبنانية ضد الحسابات التي تعتبر مشبوهة وعلى علاقة بحزب الله، فيما اعتبر مراقبون أن القنبلة التي استهدفت مكاتب مصرف “بلوم بنك” وسط بيروت في يونيو 2016 كانت بمثابة إنذار من الحزب للقطاع المصرفي اللبناني.
واستدعت الأزمة بين الحزب والمصارف اللبنانية اجتماعات بين وفود من الحزب وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي كالت له منابر قريبة من الحزب اتهامات بالتضييق المالي على حزب الله.
وتقول بعض المصادر إن الحزب وقف وراء حملة لعدم التجديد لسلامة لولاية جديدة على رأس مصرف لبنان، إلا أن ضغوطا داخلية وأخرى دولية، أعطت إشارات بالثقة التي يوليها العالم لشخص سلامة في التقيّد بالمعايير الدولية لمنع غسيل الأموال ومكافحة تمويلات الإرهاب وضمان اتساق النظام المصرفي اللبناني مع النظام والمصرفي في العالم وتشريعاته الحديثة والمحدثة.
وترى جهات سياسية لبنانية أن الإدارة الأميركية عاكفة على تقوية الترسانة القانونية لمحاصرة حزب الله في لبنان والعالم، وأن الإجراءات ضده هي جزء من سياسة مواجهة النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط.
وتبنى الكونغرس قانونا عام 2015 يسمح بفرض عقوبات على المصارف التي تمول عن سابق تصور وتصميم حزب الله. ويمتلك القرار الأميركي بمواجهة حزب الله أدوات مستقلة عن تلك التي تتعامل مع الملف الإيراني، بما يعني أن هذا الملف سيبقى مفتوحا بغضّ النظر عما يمكن أن يتطور في مجال العلاقة بين واشنطن وطهران خصوصا لجهة تهديد ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي.