سبيلبرغ، هو مخرج فيلم "البوست"، الذي يطالب البعض بمنع عرضه في لبنان لأن مخرجه مواطن أميركي يهودي مؤيد لإسرائيل ويتبرع لها بالأموال.
وإسرائيل هي عدونا، لكنها في قاموس محور الممانعة تبقى "الشيطان الاصغر"، بالمقارنة مع الولايات المتحدة الأميركية الموصوفة بـ"الشيطان الاكبر"، والداعمة الأولى لاسرائيل.
للمفارقة، يقوم سبيلبرغ هذا، وفي الفيلم المطلوب منعه، بتحريضنا ببراعة فائقة ضد "الشيطان الاكبر"، ولا سيما ضد سياسته الخارجية!
يحرضنا ضد أربعة رؤساء لاميركا، وبما يشبه التحريض على السلطة التنفيذية في حد ذاتها في هذا البلد الذي يعتمد النظام الرئاسي. لقد كذب الرؤساء على شعبهم، فهم كانوا يعرفون ان حرب فييتنام خاسرة، ومع ذلك استمروا بإرسال شبابهم إلى الموت هناك ولسنوات طوال.
يحرّضنا كذلك ولو بشكل غير مباشر على المصارف والبورصة، وتأثيراتها السلبية على حرية الصحافة.
يحرضنا ايضا على بعض الصحافة وعلاقتها بالسلطة وبالرأسمال، ويبرز غلبة دافع المنافسة على الخبر احيانا على الدوافع الاعلامية الاخرى، حتى ولو على حساب القضايا المطروحة.
لكن الفيلم يبقى أمثولة تاريخية حول أهمية الصحافة الحرة، وكسلطة رابعة في وجه تعسف السلطة التنفيذية. ويبرز كيف ان وظيفة الصحافة هي ان تقف إلى جانب المحكومين وليس الى جانب الحكام. وهذا ما أكده القضاء الاميركي في حكمه في شأن الصحف التي نشرت وثائق سرية حول حرب فييتنام تدين الرؤساء ووزراءهم.
مواقف الصحافة الحرة يعبّر عنها في الفيلم صحافيو "واشنطن بوست" وفي مقدمهم صاحبة الصحيفة التي تلعب دورها الممثلة المدهشة ميريل ستريب.
ميريل ستريب تتخذ قرارها بنشر الوثائق السرية بعد تردّد مُضنٍ: فهل تسير بما يمليه عليها ضميرها الإنساني والمهني، أم تخضع لاعتبارات المساهمين في الصحيفة ولقرار تجريم النشر من السلطة، التي من بين النافذين فيها أصدقاء لها؟
التردد ساهم فيه التضارب في الرأي، بين رئيس التحرير المتحمس للنشر وبعض أعضاء مجلس الإدارة الرافضين لذلك، إماً مراعاة لمصالح الممولين الذين قد يسحبون مساهمتهم، وإما خوفا من العقوبات التي قد تطال الصحيفة والعاملين فيها.
وقفت هذه المرأة بين هؤلاء، وجميعهم رجال يوازنون بدقة بين حسابات الربح والخسارة، لكنهم جميعا، أكانوا مؤيدين لقرار النشر او رافضين له، لن يطالهم الأذى الاكبر في حال سوء التقدير.
وحدها هي، المرأة الوحيدة بين الرجال، كان عليها تحمل العبء الأكبر لقرارها، شخصيا، ماديا وعائليا، هي التي اؤتمنت على مصلحة الصحيفة بعد وفاة زوجها.
وها هي ميريل ستريب، وبعد التعبير عن ترددها في ملامح وجهها وحركات عينيها، بإبداع في التمثيل قلّ نظيره، تأخذ قرارها الجريء بالنشر.
بتقنية اخراج رائعة، يعرض لنا سبيلبرغ بالصورة والصوت والحركة، كيف ان "الذكاء العاطفي" للمرأة، ينتصر على "الذكاء المحاسباتي" للرجال.
لا اعرف اذا كان سبيلبرغ قد اختار عن قصد لهذا الدور، مواطنة اميركية سبق وعبرت عن معارضتها الشرسة لترامب، في محاولة منه لإعطاء فيلمه وقعا معاصرا، ولا سيما ان "واشنطن بوست" هي ايضا حاليا من أشرس المعارضين لهذا الرئيس.
***
لست من الذين يستخفون بأهمية مقاطعة اسرائيل. فقد عملت في أوساط الحركة النقابية الدولية على بلورة قرارات تطالب بمقاطعة هذا البلد بسبب احتلاله لفلسطين.
وقد لمست بالتجربة، ومن خلال سلوك النقابات الاسرائيلية، كم ان اسرائيل مغتاظة ومتضررة من حملة المقاطعة الدولية. كما اني لمست بالتجربة ايضا حماسة الكثير من النقابيين الأوروبيين لهذه المقاطعة وثقتهم بفاعليتها.
لكني ببساطة غير مقتنع بأن منع عرض فيلم لمخرج أميركي مؤيد لاسرائيل، هو مقاطعة لاسرائيل. ولا ان مشاهدة فيلم ينتقد السياسة الأميركية هو تطبيع مع إسرائيل.
وما بت اخشاه بعد مشاهدة الفيلم، ان تكون الحملة هي على الفيلم نفسه وليس على مخرجه الذي عُرضت له افلام عديدة في لبنان خلال السنوات الماضية. فهل الحملة هي لأن الفيلم يعلي من شأن حرية الاعلام على حساب ما تعتبره السلطة عادةً "المصلحة الوطنية العليا"؟ السؤال مشروع في ظل تكاثر أمثلة التضييق على الحريات الاعلامية في جميع اشكالها.
هذا لا يمنع من ان ابدي اسفي واستنكاري الشديدين لأن يكون مخرج مثل سبيلبرغ، يناصر قضايا الحرية في افلامه، مؤيداً في الوقت نفسه لبلد يحتل أرض غيره ويحرم شعبا بأكمله من أبسط حرياته.
ان سبيلبرغ في الواقع يشبه الكثيرين من عندنا، ممانعين وغير ممانعين، ممن يدافعون عن حقوق وحريات هنا ويصفقون لأنظمة الاستبداد هناك.
لعلها لعنة التعصب للانتماءات الدينية والمذهبية التي تشطر انسانيتنا نصفين او اكثر، وتضرب ارواحنا بما يشبه الانفصام.