الجميع يتكلم عن النقد الرقمي "البيتكوين". العديد من المواطنين يستثمرون في هذا النقد الذي رفضته دول عدة، بل بعضها وضع فتاوى ضد التعامل به كالسعودية والكويت ومصر. هنالك دول كالامارات تسمح بالتداول به وتحاول تنظيمه لأنه موجود ولا يمكن عمليا تجاهله. هنالك دول غربية عديدة ترفضه كنقد بينها ألمانيا والولايات المتحدة. لبنان رفض السماح بالتداول به في الداخل، لكن من يمنع اللبناني التداول به دوليا أو أقله خارج لبنان؟ لماذا ظهر "البيتكوين" وما هو مبرر هذا الاهتمام به؟ ظهر بعد فشل المصارف المركزية في الحفاظ على أسعار الصرف خاصة في الولايات المتحدة وأوروبا. تعثر الاقتصادات العالمية بدأ من أزمة الركود الكبير برر التداول ببدائل للنقد الرسمي تعطي بعض الاطمئنان. اذا فقدان الثقة بالسياسات الاقتصادية وخاصة النقدية سمح لنقد جديد بالظهور والانتشار عبر الحواسب معتمدا على برامج رياضية ورقمية متطورة ومعقدة جدا. بدأ البيتكوين بالظهور في سنة 2010 وتقلبت أسعاره كثيرا خاصة السنة الماضية وبالتالي وجب الحذر منه دون ضرورة منعه.
يقول الاقتصادي "روبرت شيللر" Shiller أن التداول في البيتكوين يقع بين الاستثمار والقمار حتى لا نقول عنه المغامرة. من يعتبره قمارا أو ميسرا يمكن أن يمنعه كما فعلت بعض الدول العربية. من يعتبره استثمارا، يجب أن يضع ضوابط له خاصة وأن تقلباته خطيرة جدا ويمكن أن تطيح بثروات المواطنين غير الملمين بالأسواق المالية بل يرغبون في الربح الكبير والسريع. نعلم جميعا أن الرغبة المتهورة غير المحسوبة وغير المدروسة للربح يمكن أن تعطي العكس أي تحقيق خسائر كبرى موجعة. يقول شيللر أن مشكلة نقد البيتكوين أنه لا يرتكز على قاعدة اقتصادية أي على معدن أو سلع أو خدمات أو غيرها وبالتالي من الصعب جدا معرفة القيمة الحقيقية له. في رأيه هنالك ضبابية كبرى حول البيتكوين يجعل سعره يتقلب بدرجات مخيفة وسريعة. سوق البيتكوين في رأيه مبنية في نفس الوقت على عاملي الضبابية والجشع، وهذا في غاية الخطورة. المعلوم أن الأسواق المالية تكره الغموض أو الضبابية وبالتالي من الصعب تقييم أي أصل في أسواق من هذا النوع.
يقول الحقوقي "تيم وو" Wu أن عمليات البيتكوين تغطي تداول غير شرعي وغير واضح أي مثلا تبييض الأموال وما يمكن أن يشكل خرقا للسيادة والأمن والاستقرار. يقول وو أن سبب انتعاش سوق البيتكوين هو انتقال ثقة المواطن من المؤسسات الشرعية كالمصارف المركزية الى الحواسب التي تبقى آمنة أكثر في رأيه. هنالك خوف فردي واجتماعي من الأخطاء الانسانية أو من عدم الكفاءة في ادارة المؤسسات المالية والنقدية دفع المواطن الى التفتيش عن بدائل انقاذية. هنالك ثقة عالمية قديمة ومتجددة بالتكنولوجيا التي لا تخطئ أو أقله تخطئ أقل من السياسيين والاداريين ورؤساء المؤسسات والشركات. هنالك فقدان ثقة في الحكومات عامة كما أشارت اليه الانتخابات في أوروبا وأميركا وغيرها تدفع الناس الى المجتمع الرقمي الأقل خطورة والذي يعمل بقوانينه المعلنة.
ألف البيتكوين "ساتوشي ناكاموتو" وهو على الأرجح اسما غير صحيح لشخص أو أشخاص نظموا هذه السوق الكبيرة. الركيزة الاساسية للسوق هو العرض حيث حدد ب 21 مليون وحدة من "المستحيل" تجاوزها علما أن هنالك 16,7 مليون وحدة متداولة اليوم. هنالك عرض محدود اذا، تماما كالذهب مع الفارق الأساسي هو أن نقل البيتكوين أسهل بكثير ويتم عبر الحواسب وبثواني بينما نقل الذهب صعب ويتطلب وجود بنية تحتية له. يمكن حراسة البيتكوين عير ضوابط رياضية وتقنية ولا يحتاج الى حرس انساني وأمني كبير كما يحصل مع الذهب الموجود في أسفل طوابق المصارف المركزية العالمية. طبعا وهج الذهب كبير ولا يحصل عليه البيتكوين لكنه يلبي حاجة كبرى وهي سهولة التبادل به وسرعة نقله بتكلفة زهيدة عبر تقنيات الأنترنت والاتصالات. شكل البيتكوين طريقة جديدة لخلق وحيازة ونقل نقد أو أموال بسرعة عبر القارات. فهو نقد خلق وموجود لأن الناس تريده وليس المؤسسات الرسمية التي اهتزت الثقة بها. هنالك أمل كبير عند الناس بأن يصبح البيتكوين أقوى من المصارف والسلطات النقدية وخارج عن ارادتها وسيطرتها وبالتالي هنالك نوع من الانتقام من المؤسسات التي سببت أزمة 2008 الذي ما زال يعاني منها العالم كما تشهد عليه أوضاع اليونان وغيرها. تشكل البيتكوين نوعا من نقل السلطة من المؤسسات الرسمية الى الشعب أي عودة الى القاعدة. ازدهار البيتكوين يعكس مشاعر داخلية كبرى عند الشعوب وليس هو موضوع مالي أو استثماري فقط، وبالتالي معالجته صعبة وتتطلب عودة الثقة الى الحكومات والمؤسسات.
تقيم العملات الرقمية ال 1300 بحوالي 600 مليار دولار بينها 55% للبيتكوين، وهذا رقم تقريبي لأن القيمة تتحرك كل ثانية أو دقيقة. عالميا هنالك العديد من النقد الرسمي مجموع قيمته حوالي 6 ألاف مليار دولار أي أن قيمة النقد الرقمي 10% فقط من النقد الرسمي. بما أن مجموع الناتج المحلي الاجمالي العالمي يقدر ب 80 ألف مليار دولار، يشكل النقد الرقمي 0,75% من الناتج. أما النقد الرسمي فيشكل 7,5% من الناتج ويصبح 8,25% اذا أضفنا الرقمي اليه. هل يملك الرقمي صفات النقد الثلاثة وهي وسيلة للتبادل، وحدة حساب والثبات في القيمة؟ المواطنين يشترون البيتكوين للسبب الثالث أي للحفاظ على استثماراتهم وأموالهم. هل نجح البيتكوين بهذه المهمة مع تقلب سعره الخطير؟ مع الوقت يمكن للبيتكوين أن يصبح وسيلة تبادل أي لشراء السلع والخدمات كغيره من النقد العادي، لكن هذا يتطلب بعض الوقت كي يصبح مقبولا في المجتمعات كافة. الطريق طويل لكن الخطوات الأولى تمت.
ما هي الظروف التي تشجع على استعمال البيتكوين وتحدد مستقبله؟
أولا: عندما يكون التضخم منخفضا، استعمال البيتكوين للانفاق يكون جيد جدا. عندما يكون التضخم مرتفعا، تبدأ المصارف المركزية بتخفيف الكتلة النقدية لمحاربة التضخم والضغط على البيتكوين والعملات الرقمية الأخرى للتخفيف من وجودها واستعمالها. هذا يعني أن وجود العملات الرقمية يشكل تحديا كبيرا للسلطات النقدية ويضعف من قوتها وتأثيرها. هذا يعني أيضا انه من الممكن أن تضطر المصارف المركزية الى اصدار عملاتها الرقمية لمحاربة البيتكوين وبقية العملات. هذا يضبط السوق وينظمها ويمنع عمليا التزوير وسؤ الاستعمال. هذا ممكن وان يكن بعيدا بعض الشيء لكنه متداول دون شك. لا ننسى انه في سنة 2014، سيطر اللصوص على بورصة أساسية للنقد الرقمي وسرقوا 6% من البيتكوين المتوافر ولم يعوض شيء على أصحابه اذ لا تأمين على الأصل الرقمي.
ثانيا: مشكلة سوق البيتكوين أن عددا قليلا من المستثمرين يسيطر على السوق. تبعا لمجلة "بيزنس ويك"، انه في 12\11\2017، مستثمر واحد باع 25 ألف وحدة بيتكوين ب 159 مليون دولار. يسمون هؤلاء الذين يملكون أعداد كبيرة من النقد "حيتان" بحيث يحركون الأسعار كما يشأؤن عبر البيع والشراء. تقدر المجلة ان 40% من وحدات البيتكوين مملوكة من ألف شخص وأن المئة الأول لهم 17,3% من المجموع. هؤلاء ينسقون أعمالهم في الشراء والمبيع وهذا ليس مخالفا للقانون لأن البيتكوين ليس سلعة أو نقد شرعي أو أسهم أو سندات وبالتالي لا تسري عليه قوانين المنافسة.
ثالثا: شعبية البيتكوين الأكبر موجودة في الدول التي لا يحترم الشعب نقدها وتحتوي على تضخم مرتفع كما هو الحال اليوم في فينزويلا مثلا. الشعبية كبيرة أيضا في الدول التي تضع قيودا على تحرك رؤوس الأموال وبالتالي تشكل البيتكوين وسيلة للتهرب من هذه القيود.
الدكتور لويس حبيقة خبير اقتصادي - أستاذ محاضر في العلوم الاقتصادية - كلية إدارة الأعمال والعلوم الاقتصادية في جامعة سيدة اللويزة