نعيش في لبنان على وقع أزمات متلاحقة، بحيث ما إن تحل واحدة حتى تخلفها أخرى.
هذه الأزمات المتكررة تطال جميع أوجه النشاط في الجمهورية السعيدة: من انتخاب رئيس، إلى قانون الانتخاب، إلى أزمة النفايات والكهرباء، إلى ما هنالك من مواضيع سواء كانت آنية أو مزمنة؛ تستجلبها حسابات الأفرقاء وحاجاتهم، سواء الانتخابية أو التي تتعلق بالمحاصصة أو سواها.
نعيش الآن في خضم أزمة مرسوم ترقية الضباط بين الرئاسة الأولى والثانية، والمرشحة لأن تطال قطاعات أخرى وتؤثر على الانتخابات، إذا قرر الطرفان عدم التوصل إلى حل.
هذا الصراع الذي يغيّب دور مجلس الوزراء، يبدو غطاء لنزاع أعمق، بين طرف يريد أن يؤكد أنه "قوي حقاً"، وطرف آخر يريد أن يتوصل، ضمناً ودون إشهار، إلى المثالثة التي تعيد النظر باتفاق الطائف.
لكن السؤال: ما الذي ينظُم هذه الخلافات التي تأخذ البلد إلى حافة الهاوية من حين إلى آخر، ثم فجأة يتفق الطرفان ويجدان الحل بسرعة البرق وبسحر ساحر؟؟ كما حصل في الاستحقاقات السابقة، ولن يكون آخرها اتفاقهم على ملف النفط.
قد نجد جانباً من الإجابة في الكتاب الذي صدر حديثاً للدكتور فريدريك معتوق بعنوان: "صدام العصبيات"؛ الذي يرى فيه أن العصبيات لا تزال فاعلة في العالم العربي ولم يتخلص منها، بل نجدها اكتسبت مرونة وطابعاً مقاوماً للمستجدات.
ولبنان هو نموذج لتطور العصبية الدينية ـ المذهبية التي لم يعد هدفها الغلبة، بل حفظ حدودها مقابل حدود الخصم من دون كسر شوكته. ففي سياق تأقلمها اكتسبت العصبية مرونة جعلتها أكثر قابلية للاستمرار؛ فهي عكس شوكة العصبية القبلية الأولى المبنية على الدم والتي كان بالإمكان ازالتها بإزالة رأسها أو صاحب القرار فيها؛ أصبح الأمر الآن مستحيلاً حين صارت العصبية معششة في عمق وعي الأفراد ومصالح المدافعين عنها، وتعرضها للهجوم يقوّيها بدل إضعافها.
تكتفي العصبية بحماية عتبتها فلا تتخطاها. وكما نعاين الصراع لا يتضمن في صلبه، "فكرة نهاية الحرب" التي قد تفترض منطقياً زوال العصبيتين.
من هنا نجد أن المناورة ليست تكتيكاً لدى حماة العصبية، بل خيار استراتيجي. وخطاب صاحب الشوكة ذو الشعبية الكبيرة، يعتمد تغطية وتبرير وتشريع هذا التحالف أو ذاك، ضمن منطق يجد حججه تارة من هذا السجل المرجعي وطوراً من ذاك، معتمداً خطاب "الدوبل فاس"، بحسب المثل الشعبي: ألف قَلْبة ولا غَلْبة.
قد يكون هدف إحداها تحيّن الفرصة للسيطرة التامة؛ لكن تاريخنا يبرهن فشل تغلب فئة على أخرى في لبنان؛ لأنها تعتمد على ظروف خارجية متغيرة بالطبع. إذاً لا شيء يدوم على حاله.