تنفصل بالتأكيد القيمة الفنية لأي عمل إبداعي عن قيمته التوثيقية. يمكن دائما لأي فيلم سينمائي أن يحقِّق جاذبيته العالية بمعزل عن مدى مطابقته لما حدث أو يحدث. لم يحدث يوما، حتى في الفيلم السياسي أن “طالبتُ” بالتطابق بين القيمتين لأنهما إبداعيا لا علاقة لبعضهما ببعض.
… إلا في حالة فيلم ستيفن سبيلبرغ “ذي بوست” او (أوراق البنتاغون) وبالمعنى الإيجابي جدا للمطابقة!
فهو فيلم يستحثك على الابتهاج بتطابق التاريخ مع الفيلم. هذا الفيلم الرائع حقيقي ليس فقط جوهريا، أي أنه يتحدث عن أحداث مهمة في تاريخ الولايات المتحدة حصلت فعلا… فقط، وإنما أيضا عن قضية عميقة هي علاقة السلطة بالصحافة في مواجهة أحد أخطر حروب القرن العشرين، بعد الحربين العالميّتين، وهي الحشد العسكري الأميركي ضد فيتنام الشمالية.
في جيلنا من الصعب أن تكون مهتما بالثقافة السياسية وليس لديك في مكتبتك منذ سنوات طويلة أحد الكتب المتصلة مباشرة بأحداث هذا الفيلم، مما يسمح ببعض المقارنة مع الفيلم الذي يستأثر بمشاعر وحوافز الإعجاب الشديد بمعنى أن تكون الصحافة “مستقلة” عن السلطة السياسية في النظام الديموقراطي. وكلمة “مستقلة” هنا ليست فارغة ولا غير مشروطة، أي أنها ليست خيالية ولا مبالغاً بتقديمها بل وهي تؤكد الاستقلالية. فهي تطرح في مسارها مشاكل تأثير السلطة على الصحافة وعلاقة الصحافيين بالسياسيين الحاكمين أو النافذين في ديموقراطية راسخة. وهذه هي قوة الفيلم التي ينتجها عملٌ عظيم من حيث تداخل الاستقلال والارتهان العميقين في لحظة، ثابتة تاريخيا، أنها لم تنتهِ فقط لصالح الاستقلالية بل أدت هذه الاستقلالية إلى المساهمة في تغيير مسار أميركا عبر تشكيل رأي عام داخلي هو الذي جعل أميركا، بالنتيجة، تهزم أميركا وتسحبها من فيتنام. (لا زال هناك تيار يميني في أميركا يقول بأن الانتصار الأميركي كان ممكنا ضد الشيوعيين).
بعد حضوري الفيلم تذكّرتُ إذن ثلاثة كتب موجودة على بعض رفوف مكتبتي.
الكتاب الأول هو كتاب وزير الدفاع الأميركي الأميركي الأسبق روبرت مكنمارا حول “مأساة ودروس فيتنام” وعنوانه الشهير الرئيسي:
In Retrospect.
هذا الكتاب (1995) اشتهر بأن شهادة وزير دفاع معظم سنوات التورط الأميركي في فيتنام (توفي عام 2009) الذي اعترف بـ “الخطأ الرهيب” لقرار التورط في عهدي الرئيسين كينيدي وجونسون في فيتنام.
في الفيلم الذي تجري أحداثه في عهد الرئيس نيكسون يعترف مكنامارا بالفضيحة السياسية وهي أن الدراسة الأساسية التي أجراها البنتاغون للوضع في فيتنام أظهرت مبكرا أنه لا فرصة للتدخل العسكري الأميركي للانتصار هناك ومع ذلك اتُخِذ قرار التدخل العسكري في واشنطن. وهذا بالنتيجة ما كشفته صحيفتا “النيويورك تايمز” و”الواشنطن بوست” رغم محاولات إخفائه لسنوات. (بهذا المعنى غير المباشر لا يسيء الفيلم إلى قوة وتضحيات الشعب الفيتنامي بل يؤكدها).
هل فعلا اعترف مكنامارا (بروس غرينوود) مبكرا أمام صديقته ناشرة “الواشنطن بوست” كاترين غراهام (ميريل ستريب) يومها كما يقول الفيلم أم أن ذلك لم يحصل إلا بعد أكثر من ربع قرن مع صدور كتابه؟
المسألة التي يناقشها المؤرخون الأميركيون وهي لا تنعكس في الفيلم، على أهميتها، إلا بشكل عام… هذه المسألة هي أن الذي أملى مجازفة الإدارات الأميركية بالتدخل في فيتنام هو تقييم استراتيجي أن النفوذ الأميركي في شرق آسيا في زمن الحرب الباردة وبعد الحرب الكورية وهزيمة الفرنسيين في “ديان بيان فو” في فيتنام… أن هذا النفوذ الأميركي لن يستطيع تحمُّلَ خسارةِ فيتنام لأن ذلك سيعني هيمنة الصين الشيوعية على المنطقة. “ولذلك حاولنا أن نقوم بأفضل ما نستطيع” كما يبرر ماكنامارا في الفيلم لغراهام وهو يعترف بوجود التقرير تحت ضغط أسئلتها المباشرة.
الكتاب الثاني هو كتاب مذكرات الناشرة كاترين غراهام “تاريخ شخصي” الذي صدر عام 1997 (توفيت عام 2001). هذا الكتاب حصل على جوائز رفيعة يومها لأسباب عديدة منها نزاهة وصراحة حديث غراهام عن زوجها الذي انتحر عام 1963، وهو في النتيجة قصة امرأة رغم نقص خبرتها وحتى قرار والدها صاحب الصحيفة الأصلي بتسليم صحيفته إلى زوجها وليس لها، ستتولى هذه المهمة بعد وفاة الزوج لتتحوّل “الواشنطن بوست” في عهدها إلى إحدى أكبر صحف أميركا والعالم. لم يكن نجاحها فقط بسبب إدارة مهنية ومالية بالتعاون مع رئيس تحرير استثنائي هو بن برادلي، بل أيضا بسبب شجاعتها التي جعلتها تتحدّى إدارة نيكسون وتكشف تباعا عن التقرير الشهير حول قرار الحرب في فيتنام رغم التوقع المسبق للبنتاغون بعدم قدرة أميركا على الانتصار ثم لاحقا كشف “الواشنطن بوست” الشهير لفضيحة ووترغيت التجسسية التي قام بها نيكسون ضد مركز الحزب الديموقراطي وانتهى باستقالته المهينة.
الفيلم، كما الحقيقة وراءه، يثبت كيف تمكنت سيدة من أعلى أوساط المجتمع الواشنطوني ومشكوك بقدراتها وكفاءاتها أن تتحول إلى أعظم ناشرة في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، وإلى شخصية دولية علينا أن نقرأ في مذكرات فاليري جيسكار ديستان (السلطة والحياة – الجزء الأول)، وهذا هو الكتاب الثالث، كيف يتحدث باهتمام عن لقائها، وكان وزيرا للاقتصاد في النصف الأول من سبعينات القرن المنصرم وسيصبح سريعا رئيسا للجمهورية الفرنسية: “كاترين غراهام تمر اليوم في باريس ويجب أن ألغي مواعيد لألتقيها”… يقول…!
بن برادلي (توم هانكس) رئيس التحرير الأسطوري لتلك المرحلة وفريق المحررين والمراسلين الذين كانوا في قلب العملية، بل كانوا منفذيها إذا لم يكونوا صانعيها الرئيسيين والذين يعكسون جوا صعبا للمهنة ومستلزماتها بما فيه ارتباك اليوميات الشخصية و”فوضى” القدرة على التكيّف مع متطلبات الوقت وشغف العمل ونزاهة القيام بالواجب. الكثيرون من هؤلاء الصحافيين سيصبحون بفضل ذلك نجوما في الصحافة الأميركية على سنوات طويلة.
إنه فيلم اجتماع المعلومات والذكاء والشجاعة واحترام النفس في الصحيفة الواحدة.
كذلك علاقة الصحافة بالقضاء تحتل في الحبكة الحوارية للفيلم مكانة دقيقة ومسؤولة وواضحة.
لا أفهم كيف كان يمكن أن يُحرم الجمهور والنخب والصحافيون اللبنانيون من مشاهدة هذا الفيلم الرائع تحت أي ظرف. ( هذا إذا كان لا يزال هناك في عصر المعلوماتية من يستطيع أن يمنع فعليا). أما دعم سبيلبرغ لإسرائيل التبرعي ذات مرة فيستلزم لو كان هذا هو المعيار إغلاقَ جميع سفارات الدول الغربية وأولها السفارة الأميركية وطرد عدد لا يُحصى من الشركات التي تجول سياراتها وآلياتها وبضائعها في شوارع بيروت والعالم المسلم كله.
وشكرا لفيلم ممتع ومفيد ونقدي لكل سلطة وداعم للديموقراطية وحقيقي ورافع للمعنويات المهنية والسياسية. وشكرا لكل المبدعين الذين ساهموا فيه.
لا غنى عن هوليوود. والتقييم الثقافي مسألة خطيرة جدا تستلزم قابلياتٍ عاليةً جدا.
أخيرا، ولو تجاوزنا قليلا زمن الفيلم، سيظهر أن التغيير الاستراتيجي الأميركي في السبعينات سيحوّل بسرعة هزيمة فيتنام، أي الانسحاب المذل من فيتنام، إلى ورقة غير مسبوقة في إرساء تقارب أميركي صيني ضد الاتحاد السوفياتي وسيكون هذا التحالف نواة ضغط هائل سيساهم في تغيير العالم خلال أقل من عقدين ولصالح أميركا. لكن هذا الموضوع ينتظر مُخرجا أميركيّاً كبيرا كسبيلبرغ أو غيره ليروي لنا زيارة نيكسون وكيسنجر إلى بكين ولقائهما ماوتسي تونغ في أواخر حرب فيتنام!