لافتاً كان عنوان مقال نشرَه الموقعُ الإلكتروني لـ«قناة روسيا» حمَل عنوانَ «صفقة روسيّة تركيّة: عفرين مقابل إدلب» لها نكهة المقايضات في الصفقة الكبرى في شرق حلب قبل عام. جاء في المقال أنّ «دمشق تتمنّى لو تقوم تركيا بجَمع أكبر عددٍ ممكن من فصائل المعارضة لمهاجمة عفرين».
ذلك أنّ مثل تلك العملية ستُتيح لدمشق السيطرة على أقصى قدرٍ ممكن من الأراضي في إدلب. وهناك في إدلب ترى روسيا أنّ فرصة القضاء على «جبهة النصرة» أو «هيئة تحرير الشام» يجب ألّا تُفوَّت.
القوات الروسيّة انسَحَبت من عفرين فيما كانت القوات التركية تدخلها بمشاركة فصائل من «الجيش السوري الحر» تُرافقها غاراتٌ عنيفة وذلك لطرد المقاتلين الأكراد من عفرين قبل المضيّ الى طردهم من منبج شمال سوريا.
فأنقرة تُريد إنشاءَ «منطقة آمنة تمتدّ نحو 30 كيلومتراً» داخل سوريا، كما أكّد رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم، وتُريد «إعادة 3,5 ملايين لاجئ سوري» إلى بلادهم كما قال الرئيس رجب طيب أردوغان.
واشنطن انتقَدَت العمليّة التركية، لكنهّا لم تَعترض عليها صراحةً واكتفت بالدعوة إلى «ضبط النفس» وبدعم فرنسا في طلبها انعقادَ مجلس الأمن الدولي عاجلاً لبحث الوضع في «الغوطة وإدلب وعفرين».
وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف اعتبر المبادرة الفرنسيّة «تحيّزاً تجاه أحداثٍ معيّنة خاصّة بالتسوية السورية. وهذا يثير قلقنا». اتّهم «التحالف الدولي» الذي تقوده الولايات المتّحدة بالسعي للتعامل بـ«رحمة» مع «جبهة النصرة» لكي تحافظَ على هذه الجماعة لتغيير النظام في دمشق في إطار ما يُسمّى
بـ«خطة باء». وقال «هذا مرفوض تماماً بالنسبة إلينا، وسنتصدّى بشدّة لهذه المحاولات». موسكو تهادنت مع العملية العسكرية التركية في عفرين شمال غرب سوريا فيما أعربت طهران عن «القلق» منها. أمّا دمشق فإنّها قالت على لسان رئيسها بشار الاسد إنّ «العدوان التركي الغاشم» إنّما هو امتداد لنهج تركيا في «دعم الإرهاب والتنظيمات الإرهابية على اختلاف تسمياتها».
فالثلاثي «الضامن» ليس في وفاقٍ تام في هذا المنعطف وحليفه في دمشق يُراقب بحَذر وقلق شتّى السيناريوهات التي تُعوَّم في مرحلة إعادة خلط الأوراق والمساومات على اقتسام النفوذ والأراضي والموارد في سوريا.
أردوغان حسَم أمره. مواقفه ومطالبه واضحة وعنيفة ومليئة بالتحدّي وبالتحدّيات. يلعب ورقة «داعش» في وجه مَن يُعارض ورقته الأولى وهي تحطيم «وحدات حماية الشعب» الكردية التي يَعتبرها المرآة السورية لـ«حزب العمّال الكردستاني» الذي يَصفه بـ«الإرهابي» ويقاتله في جنوب شرق تركيا. إنّه يعتبر محاربة الطموحات الكردية إمّا للحصول على حكمٍ ذاتي، أو لبناء دولة كردية، أو للسيطرة على مواقع مهمّة في سوريا، في أعلى قائمة أولويّاته.
فأردوغان لا يأبه إذا كان انصبابُه ضدّ الأكراد في سوريا إنّما يُفكّك أية معارضة جدّية للنظام في دمشق ولبشار الأسد الذي يدعو أردوغان الى رحيله عن السلطة.
ثمّ إنّ تركيا لطالما أرادت «منطقة آمنة» على حدودها مع سوريا داخل الأراضي السورية. الآن، وقد شعَرت أنّ نافذة الاقتسام بدأت تُفتح، رأت أنقرة أنّ مِن مصلحتها الإسراع الى تنفيذ الاستراتيجيّة الثلاثية: تحجيم الطموحات الكرديّة، وإنشاء منطقة آمنة، وإعادة حوالى 3,5 ملايين لاجئ الى سوريا.
حقيقةُ التحالفات مع أكراد سوريا ضائعة. تارةً يُقال إنّ الأكراد أصدقاء روسيا وتارةً تعتبرهم موسكو عثرةً في طريق جرّافتها في سوريا. حيناً تتملَّص الولايات المتّحدة من مسؤوليّاتها وتعهّداتها نحو أكراد سوريا، وحيناً آخر تجعل منهم الشريك الأساسي وتمدّهم بالمال والسلاح.
سيرغي لافروف اتّهم واشنطن بأنّها تُشجّع «انفصاليّة» الأكراد واعتبر النشاط الأميركي على الحدود السورية - التركية إمّا «عدم فهم للوضع، أو استفزازاً متعمَّداً».
قال «منذ فترة طويلة نلفت الانتباه الى أنّ الولايات المتحدة تتَّبع نهجاً لإنشاء أجهزة سلطة بديلة عن جزءٍ كبير من الأراضي السورية» و«واشنطن تقوم بتوريد الأسلحة الى سوريا بشكل معلن وغير معلن لتسليمها الى الفصائل التي تتعاون معها» وخصوصاً «قوات سوريا الديموقراطية» التي تعتمد على قوات «حماية الشعب الكردية».
إنّما لافروف كان حريصاً على التشديد على ضرورة مشاركة الأكراد في عملية التسوية السورية لاحقاً، وأكّد أنّ ممثلين عن الأكراد مدعوّون لحضور مؤتمر الحوار الوطني السوري في «سوتشي» يومَي 29 و30 الجاري.
الخلاف الرئيسي بين واشنطن وموسكو يبقى حول مستقبل دور إيران في سوريا. طهران تخشى أن يؤدّي الضغط الأميركي على روسيا الى اهتزازٍ جدّي في العلاقة التحالفيّة الاستراتيجيّة الروسية - الإيرانية في سوريا.
موسكو تُدرك أنّ تغييراً جذرياً طرأ على السياسة الأميركية نحو سوريا منذ كان الرئيس السابق باراك أوباما مسترخِياً في ترك زمام الأمور لروسيا وفي تجنّب مواجهة الطموحات الإيرانية خوفاً على مصير الاتّفاقية النووية.
وزير الخارجية ريكس تيليرسون اتّخذ قراره الحاسم بعدما كان أوحى أنّ له مواقف مختلفة عن مواقف البيت الأبيض وأركان إدارة ترامب مثل هربرت ماكماستر، مستشار الأمن القومي الأميركي. تيليرسون اتّخذ قرار الالتحاق بنهج وفكر وقرارات البيت الأبيض وفريق ماكماستر. وهذا ما لا يُريح لافروف الذي اعتاد على نظيره السابق جون كيري الذي كان يُنفّذ له كل مطالبه في ملف سوريا.
ما تُدركه الديبلوماسية الروسية جيداً هو أنّ تماسك الرئيس دونالد ترامب وقدرته على تخطّي الضغوط الإعلامية الضّخمة عليه سيؤدّي الى تشكيل خطر على المشاريع الروسيّة في سوريا. هناك حملة داخل الولايات المتحدة تهدف وراء تحجيم وتحطيم دونالد ترامب ليُصبحَ ضعيفاً.
هذا كلام معسول لآذان القيادة الروسية. ذلك أنّ إضعافه داخلياً سيُضعف ديبلوماسيّته الخارجية، بالذات في سوريا. أمّا إذا تجاوز دونالد ترامب هذه الضغوط والحملات ضدّه، تتوقّع روسيا زخماً يُحبط ما أعدَّته من مشاريع ووزّعته من حصص واحتفظت به من فوائد في الكعكة السورية.
مشكلة روسيا أنه ليس في وسعها الآن أن تتردَّد في سوريا لأنّ ذلك يؤذيها في أوكرانيا. إنّما موسكو تَعي تماماً أنّ روسيا - رغم كلّ إنجازاتها واستعادتها المكانة الدولية عبر البوابة السورية - إنّما هي ليست الاتّحاد السوفياتي الذي كان يتقاسم حقاً مرتبة العظمة مع الولايات المتّحدة في زمن الدولتين العظميَين.
فرنسا قرأت ملامحَ التوتر الروسي إزاء التماسك الأميركي في المواقف الجديدة في شأن سوريا، لذلك قالت إنّ روسيا غيرُ قادرة على حلّ الأزمة السورية، ولا تملك وسائل إعادة الإعمار. هذا تحدِّ لم يسبق أن خطر على بال باريس لو لم يكن في واشنطن رئيس جديد وسياسة مختلفة.
المقال الذي تحدَّث عن الصفقة الروسية- التركية حول عفرين كتَبه أوليغ موسكفين واندريه ريزشيكوف في «فزغلياد». الصحيفة نقلت عن الباحث في مركز الأمن الدولي التابع لمعهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية، ستانيسلاف ايفانوف أنّ «الهجوم على عفرين يشكّل انتهاكاً جسيماً لسيادة سوريا... وروسيا ستُصرّ على مشاركة الأكراد على قدم المساواة في محادثات السلام في أستانا وجنيف.
لذلك لا أعتقد أنّ روسيا ستتخلّى عن الأكراد» في سوريا. في المقال نفسه برَز عنوان أعرض جاء فيه: «تركيا تُحاول إرغام روسيا على التخلّي عن حليفها المهمّ في سوريا».
حليفُ مَن هم أكراد سوريا اليوم على ضوء العملية التركيّة المسمّاة «غصن الزيتون»؟ لعلّ الجوابَ باقٍ في دهاليز تلك الصفقة الكبرى حول عفرين وإدلب ومستقبل المقايضات في سوريا.