تَبرز في رواية «خيمة مروى»، (هاشيت أنطوان)، للكاتب اللبناني جان هاشم، جدلية العلاقة بين «الواقعي» و «المتخيَّل»، إذ يستقي الكاتب من الواقع قصة، ليعجنها في مخيلته ويستخرج منها خميرة رواية خيالية تتقاطع مع الواقع في كثير من الأحيان. ولعل التربة الخصبة التي أوجدتها الحرب اللبنانية بتناقضاتها ومجرياتها جعلت «المتخيَّل» لا يفلح كثيرًا في الابتعاد من الواقع، إذ إنك تشعر بأن «خيمة مروى» هي فعلًا خيم أهالي المفقودين في الحرب اللبنانية التي بقيت قائمة لسنوات أمام مبنى الإسكوا في وسط المدينة.

مروى كانت قد ضمّدت جرحها النازف أبداً، وانصرفت إلى الاهتمام بعائلتها، بعد أن فُقِد زوجها خلال الحرب ومنّت النفس في البداية بإمكان عودته، فبذلت كل ما بوسعها من وساطات وجولات استجداء للرحمة من هذا الزعيم أو تلك الميليشيا المسيطرة في المنطقة، ولكن من دون جدوى. إلا أنّها وبعد مضي أكثر من عقدين من الزمن، استطاعت لجنة «لَمْ شَمل» أن تنكأ الجرح غير الملتحم أصلاً، وأن تقنعها بالمشاركة في مخيم الأهالي للمطالبة بعودة المفقودين في الحرب اللبنانية، سواء على أيدي الميليشيات أو في سجون دولة «الوصاية الشقيقة» التي يقبع غالبيتهم فيها أو في قبورها الجماعية.

ترددت مروى في البدء بالقبول بنبش الماضي عن بكرة أبيه، إلّا أنّها ما لبثت أن بدّلت رأيها إرضاءً لضميرها وإنصافًا لحب حياتها وزوجها، منير. رحلة مروى في مخيم الإسكوا كانت مليئة بالآمال والخيبات، فتارة تشعر بأنهّا على مقربة من الحل، وطوراً تحسّ بأن كل شيء انهار وعادت إلى نقطة البداية.

هذا ويلعب التعامل الإعلامي مع الحدث دوراً مفصلياً في الرواية، حيث تبرز القضية على الشاشات حيناً وتُغيَّب حينًا آخر، تبعًا للتطورات التي يشهدها الاعتصام والإنجازات التي يحققها. ولعل أبرز ما أورده الكاتب في هذا الإطار هو مدى دقة دور الكاميرا في إظهار الحقيقة كما هي. «الكاميرا لم تخطئ ولم تكذب في الظاهر، لكن كيف لها أن تتسلّل إلى أعماق هؤلاء الناس، وإلى الهموم التي يرزحون تحتها، إلى الجرح المنفتح مجدّداً مع هذا الاعتصام؟» (ص89).

إذاً لكلٍّ من المشاركين في الاعتصام حكايته وأوجاع الحياة المعاشة قبل الفقد وبعده. من أم طوني وأبي طوني وخلافهما المزمن الذي يعود إلى ما قبل اختفاء طوني، إلى أم علي التي جعلها أحد النافذين في سجون الوصاية ترى شخصًا من بعيد على أنّه ابنها بعد أن دفعت مبلغًا من المال، إلا أنّها كانت متأكدة أن من رأته ليس ابنها، وخافت أن تذكر الموضوع كي لا يؤذوا ابنها أكثر، فلاذت بالصمت طوال سنوات وكانت تخبئ صورته خوفاً من أن يتعرّض للتعذيب أكثر.

بقيت أم علي أسيرة صمتها إلى أن أقنعتها مروى والصحافية بالكلام من دون ذكر اسمها.

نجحت مروى في أن تثبت حضورها أكثر فأكثر في المخيم وأن تمثّل الأهل في زيارة للوزير المعني ورسّخت شخصية «الدومزيل مروى»، المدرِّسة التي حظيت باحترام كل سكان البلدة. فأصبحت من الشخصيات الأساسية في التحرّك، ومحطّ ثقة جاك الباني مسؤول «لَمْ شَمل» وفريق عملها. توطدت علاقة صداقة متينة بين جاك ومروى وبات لرأيها أهمية في ما يحصل. فشكّلت صلة وصل بين الأهالي واللجنة.

أما حال جاك الباني السجين السابق لدى دولة الوصاية والمقعد بعد إصابته، وعدم رغبته في الحديث عمّا حصل له في السجن، فتترك أثرها في ذهن القارئ: «ينتظر الأهل أن يعود مفقودهم سليمًا، كما كان يوم فارقهم، يتوقف الزمن عندهم يوم فقدانه. يفرحون بعودته، إذا عاد، ثمّ يواجهون واقعًا آخر. الجسد المعطوب، وإذا تعافى الجسد، كيف تسلم الروح؟ تلازمهم مصيبتهم، تبقى ماثلة أمام أعينهم» (ص117).

هذا من دون أن نغفل «دانيال دورا»، المفكّر والباحث والأستاذ الجامعي الفرنسي الذي قضى نحبه على يد جهة تابعة لنظام دولة الوصاية، ومشاركة زوجته في الاعتصام حيث أدلت بشهادة حيّة تحدّثت فيها عن قصة زوجها الذي تُرِك يموت ببطء وهو مصاب بمرض عضال، فيما أشيع أنّه أُعدِم لإثارة الرعب في صفوف الناس. وكيف أغفلت الحكومة الفرنسية قضيته إلى أن اكتُشِفت جثّته بعد عشرين عامًا. «نعم، حكومتنا أيضاً مثل حكومتكم، ومسؤولينا كمسؤوليكم، يتناسون أمور الناس العاديّين ومآسيهم، ويدوسون عليها عندما يشتغلون على مسائل أكثر أهميّة، بل أقول عندما تقتضي مصالحهم ذلك. نحن لسنا في حسابات مصالحهم»، تقول زوجته سارة دورا، (ص132). مما جعل أهالي المفقودين يتمنون أن تنتهي قصتهم كما حصل مع سارة بعد عشرين عامًا: «ليت قصتنا تنتهي مثل قصتها، ولو مع جثّة» (ص134).

كانت السلطات اللبنانية قد أبدت اهتماماً بالغاً بالموضوع مما انعكس اهتمامًا إعلاميًا وجماهيريًا. إلا أنّه ومع تغيّر الحكم ورد دولة الوصاية بأن لديها قائمة مفقودين أيضًا في لبنان، تريد أن تطالب بهم، عادت الأمور إلى نقطة الصفر وغادر معظم الأهالي المخيّم وبات جهاد، ابن مروى، وشقيقتاه يطالبونها بالعودة بإلحاح كبير، بعد أن تبدّل الموقف السياسي كليًّا وبات الملف طيّ الكتمان. بحيث رفض رئيس الجمهورية العتيد استقبال لجنة من أهالي المفقودين، وأكّد أنه مقتنع بأن لا مساجين سياسيين لدى دولة الوصاية، وأن مسألة المفقودين في الداخل قد حُلَّت.

«أما الطامة الكبرى فوقعت عندما صرّح رئيس الجمهورية، في لقاء مع الصحافيّين، أنّه واثق ممّا قاله لأنّ رئيس دولة الوصاية، الذي تربطه به صداقة حميمة، قد أكّد له ذلك، وأنّه يثق بكلام هذا الرئيس الذي يكنّ له كلّ احترام، ولذلك لم يجد ضرورة للبحث في هذه المسألة» (ص183).

طالبت مروى بالتصعيد، ولـمّا لم تجد استجابة مع طلبها، قررت المغادرة. وفيما وضّبت أمتعتها وهمّت بالرحيل كانت تتحدّث بغضب وانفعال، فسقطت أرضاً وهي تمشي ودهستها سيارة وماتت. وجلّ ما فعتله الدولة اللبنانية، هو أن قامت بلدية بيروت بتسمية المخيم بـ «خيمة مروى».

إنّها إذاً مأساة أهالي المفقودين يستعيدها هاشم في تفاصيل من نسج خياله تبدو قريبة جدّاً من الواقع، حدّ التماس به. وممّا لا شكّ فيه أن هاشم استند إلى الواقع في مقاربته روايته التي تنتمي إلى الأدب المتخيَّل هذا. فيبقى السؤال الأبرز: إلى أي مدى نجح هاشم في سلوك درب الأدب المتخيَّل في رواية تلامس الواقع إلى درجة التماهي معه؟

يشعرنا الكاتب فعلًا بأننا أمام الأبطال، نتحسّس حركتهم ونشاركهم يومياتهم، حيث يتوسّع الكاتب في المشهدية ويفيها حقّها، ويراعي أدقّ التفاصيل كي لا يترك أي تساؤل، ولو بسيط، في ذهن قارئه. ولعلّ أبرز ميّزات هذه الرواية أنّ الكاتب يعالج شتّى الجوانب المحيطة بالموضوع من السياسي إلى الاجتماعي واليومي والإنساني، فيلمّ بكل جوانبه إلماماً دقيقاً تعجز معه عن أن تصدّق أنّ ذلك ثمرة إعمال خيال وحسب. فلربما قدَّم موضوع الرواية خدمةً كبيرة إلى الكاتب هنا، إذ نجح في إثراء نصّه بتفاصيل دقيقة دقة الواقع المشابه لها.