دخلت الولايات المتحدة كلاعب كامل الأهلية والدور والوظيفة في تحديد راهن سوريا كما مستقبلها. بات البلد مهما لاستراتيجية الأمن القومي الأميركي بعد أن جعلته إدارة الرئيس السابق باراك أوباما متراجعا في سلم الأولويات التي تشغل بال واشنطن. أضحت سوريا موقعا أساسيا في خرائط البنتاغون ووزارة الخارجية والبيت الأبيض في المنطقة، وجزءا من التحولات التي طرأت على المزاج الأميركي العام حيال باكستان وإيران، مرورا بالعراق وسوريا ولبنان.
لم يعد سرا أن الجيش الأميركي يملك ما لا يقل عن ثماني قواعد عسكرية في سوريا ينتشر معظمها شرقا في الجهة المقابلة لقاعدتي حميميم وطرطوس الروسيتين في الغرب. ولم يعد سرا أن لا تردد في القرار الاستراتيجي الأميركي القديم الجديد بالاستناد على القوى الكردية لبسط النفوذ الأميركي القادم في سوريا. والظاهر أن أولي القرار العسكري والسياسي والأمني في الولايات المتحدة لم يحتاروا كثيرا في التفضيل ما بين “قوات حماية الشعب” الكردية وتشكيلاتها الرديفة (قسد وغيرها) من جهة/ وما بين الحلف التاريخي الأطلسي مع تركيا من جهة أخرى.
راوغت واشنطن طويلا وأجلت المواجهة مع أنقرة، لكن مصالح واشنطن باتت تميل نحو أكراد سوريا حتى لو كانت مرجعيتهم عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني في تركيا، وحتى لو كانت قيادتهم الحقيقية تسكن جبال قنديل الشهيرة شمال العراق.
تذهب الإدارة الأميركية بعيدا في انتهاج خيارات مفاجئة ضربت الطاولة البليدة للشرق الأوسط وأربكت فاعليها. لم تعد أنقرة ترى تميزا لعلاقاتها مع الولايات المتحدة عن تلك الكارثية بين طهران وواشنطن. تستضيف ولاية بنسلفانيا الأميركية فتح الله غولن العدو الأول للرئيس التركي رجل طيب أردوغان. تماطل واشنطن في إعطاء رد على طلبات أنقرة التي لا تنتهي بتسليمها من تتهمه بأنه زعيم “الكيان الموازي” المتهم بتدبير محاولة الانقلاب الشهيرة في 15 يوليو 2016، وتعد بدرس هذا الطلب قريبا. في تركيا من يرى أن سلوك واشنطن مع غولن يتعدى الاستضافة إلى ما يشبه الرعاية والتواطؤ الملتبسين.
على أن إعلان واشنطن عن ورشة كبرى لإقامة قوة كردية قوامها 30 ألف مقاتل للدفاع عن الحدود الشرقية الشمالية في سوريا يقدم الأعراض الأولى لما ترسمه الولايات المتحدة في سوريا ما بعد داعش. بدا أن الإدارة الأميركية تفرش خيمة أميركية فوق حدود جغرافية سيتجمع الأكراد داخلها ليمارسوا إدارتهم الذاتية المتوخاة. لا شيء يمنع من تطور تلك الإدارة إلى كيان مستقل في عرف الوجدان الكردي، على الرغم من صعوبة ذلك وفق السابقة التي تم إجهاضها في إقليم كردستان العراق. وبدا أيضا أن ما تريده واشنطن للأكراد يرسل إشارات قاسية صوب كافة اللاعبين في الميدان السوري، لا سيما روسيا- بوتين.
حراك عسكر واشنطن في سوريا لا يجري عن هوى، بل هو واجهة من واجهات سياسة خارجية في سوريا تتكشف أوراقها يوما بعد آخر
تفصح المناورة الأميركية في شقيْها العسكري الميداني والسياسي الدبلوماسي عن عزم على استعادة زمام المبادرة في سوريا. والأمر يتجاوز الحسابات السورية لينبسط باتجاه ما تدبره واشنطن في العراق وما تحيكه من خطط لمواجهة إيران في كل المنطقة. ضمن هذا السياق تعود موسكو لتستفيق على وضع جديد يحرمها من موقع الريادة الذي تمتعت بـه في السنوات الأخيرة.
لم تعد سوريا بالنسبة لبوتين منبرا عاليا يطل منه على العالم أجمع، ولم يعد بالإمكان تنظيم تعايش يشبه الشراكة بين روسيا والغرب في سوريا، يكون بديلا عن فضاء التنافر داخل الميدان الأوكراني. لم تستطع المنابر الروسية العسكرية الرسمية كتم دهشتها من فرضية أن مخالب أميركية كانت وراء الغارات الجماعية التي شنتها 13 طائرة مسيرة ضد قاعدتي حميميم وطرطوس. حتى أن وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، الذي احترف الحنكة مع نظيره الأميركي القديم جون كيري إبان الإدارة السابقة، بدا فاقد الحجة متلعثم اللسان في تفسير ذلك الانقلاب المقلق في استراتيجية واشنطن السورية.
قد تكون إيران في هذه الأيام هي أكثر المرتاحين للتطور الأميركي في سوريا. استفاقت طهران لتجد نفسها في خندق حقيقي واحد مع روسيا وتركيا، ولتلاحظ، للمفارقة، مدى التناغم الجاري هذه الأيام بين نظام أنقرة ونظام دمشق.
تعرف طهران أن أمر التحالف هذا ظرفي انتهازي مؤقت، وأن تسويات قد يتم إدراكها بين واشنطن وكل من أنقرة وموسكو، وأن تلك التسويات لا بد أنها ستأتي على حساب إيران في كل المنطقة.
خلال ساعات اختلطت أوراق كثيرة في سوريا. تكتشف موسكو أن تقدمها متحالفة مع إيران ونظام دمشق داخل محافظة إدلب لم يغضب الأتراك فقط، بل فقد كل معانيه حين أطل الأميركيون ملوحين بألويتهم الكردية شرق البلاد. خلال ساعات فقط تحوّل السجال بين أنقرة وموسكو وطهران إلى سجال بين الجميع وأصحاب الحل والربط في واشنطن. بات نظام الأسد يهاجم أمر القوة الكردية من بوابة الدفاع عن وحدة سوريا، فيما توعد نظام أردوغان ذلك المشروع بصفته تقسيميا لسوريا. وبين هذا التصريح وذلك الموقف يطل وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون متأبطا ملفا سميكا يوحي أن حراك عسكر واشنطن في سوريا لا يجري عن هوى، بل هو واجهة من واجهات سياسة خارجية في سوريا تتكشف أوراقها يوما بعد آخر.
يكتشف السوريون أن لواشنطن خطة سورية. قيل إن نصر الحريري رئيس وفد المعارضة السورية إلى جنيف، حين زار نيويورك، سمع من أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس كلاما حازما في شأن سوريا يَعدُ بجهد دولي قادم باتجاه تسوية التغيير في سوريا. قيل أيضا إن كواليس واشنطن تتحدث بلهجات راديكالية ضد نظام دمشق بما يقوّض كل الهمم التي تبذلها روسيا لإيجاد حل دمشقي الهوى في سوتشي. تفصح منابر الإعـلام عـن اجتماعـات أوروبيـة غربية جـرت في واشنطن واستكملت في باريس من أجل إخراج خطة يتم التجادل بشأنها مع موسكو لإخراج سوريا من أتون النار والعبث الحالي.
وعلى قاعدة الاختراق اللافت الذي تعمل عليه واشنطن في سوريا يتسابق جنيف وسوتشي على خطب ود الفرقاء السوريين. سوتشي لا تحظى برعاية الأمم المتحدة ودون ذلك فإن ما قد يخرج من مداخن بوتين هناك لن يحظى بغطاء دولي يفرج عن التمويل الدولي لمشاريع الإعمار في هذا البلد.
عادت ميادين سوريا لتفاجئ اللاعبين. أظهرت معارك الغوطة، كما غارات الدرون كما دينامية الفصائل في إدلب كما التطور الكردي شرقا، أن أمور سوريا تعود لمربعات أولى خُيّلَ للمراقب تجاوزها. بدا أن التواصل القريب بين تيلرسون ولافروف، كما ذلك الذي جرى بين رئيسي الأركان الأميركي والتركي على هامش اجتماعات الحلف الأطلسي، بمثابة إعلان نوايا أميركي جديد وجب على كافة الأطراف أخذه بعين الاعتبار.
فإذا ما قرر ترامب تأجيل الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران طالبا من شركائه الأوروبيين إيجاد صيغ لإصلاح ما أفسده هذا الاتفاق، فذلك أن رجل البيت الأبيض يعوّل على حضور عسكري وسياسي أميركي في سوريا والعراق يطل مباشرة على دوائر النفوذ الإيراني في البلدين.