تتزايد في لبنان لائحة الإعلاميين والفنانين والكتّاب الذين صدرت وستصدر في حقهم أحكام قضائية، لمجرد قيامهم بعملهم في مخاطبة الرأي العام ونقل وجهات نظرهم في ما يجري في بلدهم. في «العهد القوي»، يُمنع على الصحافيين والباحثين التحدث إلى جمهور المواطنين فيما تفبرك اتهامات لآخرين ويرمون في السجون «إلى أن يظهر لهم صاحب» بحسب العبارة المصرية. ويتولى سياسيو العهد مهمة توجيه الرأي العام بتغريدات تفوح من الادعاء إضافة إلى جهل مدقع بكل ما يكون عالم اليوم، وصولاً إلى صوغ لغة عربية مُحطّمة تلائم مستوى السياسيين الذهني.
حقاً، ما الداعي لصحافيين وكتّاب وباحثين، يتدخلون في ما لا يعنيهم ويشوشون مسيرة الإنجازات الظافرة ما دام بات في وسع السياسي «القوي» التوجه إلى الجمهور مباشرة عبر تويتر وفايسبوك؟ فليدخلوا، إذاً، السجون أو يذهبوا إلى المنافي أو فليصمتوا صمتاً يليق بالوشاة الذين يهرفون في ما لا يعرفون. هكذا يريد لنا التحالف الحاكم أن نكون، شهوداً صامتين، أو لا نكون.
من بين المتدخلين في الشأن العام (الخاص في رأي تحالف السلطة) من أنقذه جواز سفره الأجنبي، وثمة من حمته الطبقة السياسية التي يمثلها وينطق باسمها، وهناك من أسعده الحظ بتأشيرة سفر إلى بلد أجنبي. ولم يبق هنا إلا المستضعف ليتلقى المهانة بجرعات يومية.
بيد أن ما تقدم يطرح السؤال عن السبب في تضافر أطراف كانت تكن العداء الشديد لبعضها البعض حتى أعوام قليلة مضت، حيال ناشطين ومدونين وصحافيين. ما سرّ هذه الحساسية الشديدة عند وزراء يبشرون في تغريداتهم المذكورة عن استعادة الحقوق وسيادة العدالة وحكم القانون حيال أي كلمة تقال، بغض النظر عن صحتها أو زيفها، واللجوء إلى القضاء والأجهزة الأمنية لقمع المعترضين والمشككين؟
الواضح أن التسوية التي صاغت العهد وحكومته قامت على تنازلات تختلف خطورتها من طرف إلى آخر. تنازل «التيار الوطني الحر» عن عدائه المستحكم لتيار «المستقبل» مقابل تناسي الأخير كل خطابه المستمر منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري عن «الحقيقة» والسيادة وما شاكل. سبب التنازلات؟ قناعة عامة أن لبنان فقد قيمته التي جعلت منه في مراحل سابقة، تجربة للديموقراطية في العالم العربي ثم ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية وبعد ذلك منطلقاً للسلام وإعادة البناء في المنطقة. انتهت تلك التجارب ولم يعد أمام اللبنانيين سوى خيباتهم وفشلهم وجرحهم النرجسي، تحرسها أكوام من السلاح الإيراني. أنشأ هذا المناخ تحالف الأضداد بين «الوطني الحر» و «المستقبل» برعاية كريمة من «حزب الله»، وهذا تحالف يسيطر عليه الارتباك والارتجال وما من مشروع لديه غير دوام هيمنته على السلطة وموارد البلاد واستغباء العباد.
لا يسع حكمٌ هذه صفاته أن يرد على صحافي عندما يقول إن السلطة ميّزت بين الإرهاب السني ونظيره الشيعي، بغض النظر عن صحة أو كذب هذا الادعاء. ذلك أن الدفاع عن شبكة المصالح التي يقوم عليها تحالف الممسكين بالسلطة، من المربعات النفطية في البحر وصولاً إلى أصغر التزام لترميم نفق، لا تتحمل نقداً يخرجها من الغرف المغلقة إلى هواء النقاش العام المفتوح. وسيان كان هذا النقد محقاً أو جائراً.
وهكذا تتحول هذه البلاد إلى أرض خصبة للأدعياء وأشباه المتعلمين يسيرون على طريق التعامل مع الكلمة بالملاحقة والتهديد.