اللبنانيّون القريبون من طهران أنفسهم مُقتنعون بأن التظاهرات، بل الاحتجاجات الشعبيّة الضخمة التي سارت في العاصمة وسائر المدن الكبرى عام 2009 احتجاجاً على “إنجاح” الرئيس محمود أحمدي نجاد في انتخابات الولاية الثانية بوسائل “غير مشروعة”، كانت أكثر خطورة على الدولة والنظام الإسلامي في إيران من التظاهرات الاحتجاجيّة التي انطلقت من مشهد قبل أسابيع قليلة، ثم انتشرت أياماً قبل أن ينجح أركان النظام والجهات الأمنيّة والعسكريّة معاً في احتوائها. ففي تلك السنة كان المُرشّحان “الخاسران” مير حسين موسوي ومحمد كرّوبي جزءاً من النظام. إذ كان متعاطفاً معهما إلى حد ما (الراحل) حجّة الإسلام هاشمي رفسنجاني رفيق الإمام الراحل الخميني والرئيس السابق للجمهوريّة الإسلاميّة الدكتور السيّد محمد خاتمي. كما حَظِيا بتأييد شخصيّات وحركات إسلاميّة عدّة. ولو لم تواجهها السلطة بحزم ولكن بخطّة تتلافى قدر الإمكان إهراق الدماء لكان ربّما تغيّر وجه إيران الخميني وإن من دون أن تفقد “حجابها” الإسلامي. لماذا تظاهر احتجاجاً أبناء المدينة المُقدّسة عند الشيعة مشهد وأيّدهم أبناء مدن أخرى ومناطق ريفيّة بينهم متديّنون ومُحافظون ومُتشدّدون وفي الوقت نفسه إصلاحيّون، ثم اندسّ في وسطهم أُناس مُعادون أساساً للنظام الديني في البلاد؟
يُجيب هؤلاء القريبون من طهران أن الحصار الذي فُرِض على إيران مع العقوبات من المجتمع الدولي في صورة عامّة وخصوصاً من أميركا أدّى إلى انكماش اقتصادي، وصعّب تصدير النفط وتحديث البنى التحتيّة. وذلك كان مقصوداً من أجل الضغط على حكّامها بواسطة الشارع أي الشعب الذي لا بدّ أن تدفعه ظروفه المعيشيّة الصعبة إلى الاحتجاج والتظاهر. ويدعون السائلين أو المُتسائلين إلى عدم نسيان الفساد الكبير في الدولة الإيرانيّة، ووجود فريقين مُتصارعين داخل النظام واحد إصلاحي وواحد محافظ مُتشدّد، كما وجود الشيخ حسن روحاني في رئاسة الجمهوريّة الذي صار أحد الإصلاحيّين، رغم أنّه ينتمي فعلاً إلى الوسط وقد يكون أقرب إلى اليمين أي إلى المحافظين، ويلفتون في هذا المجال إلى أن الضغط المذكور أعلاه هو الذي دفع إيران إلى التفاوض مع المجتمع الدولي (مجموعة الـ 5+1) حول ملفّها النووي، اعتقاداً منها أن التوصّل إلى اتّفاق سيرفع العقوبات المفروضة عليها ويمكّنها من إراحة الوضع الاقتصادي والمعيشي. لكن ذلك لم يحصل كما تصوّره المسؤولون في طهران، إذ رفع الرئيس الأميركي أوباما بعض العقوبات، ولم يتمكّن بعد وقوفه على عتبة نهاية ولايته من القيام بالمزيد. كما لم يشأ الاندفاع في إراحتها جرّاء امتناعها عن التجاوب معه لحوار يتناول أزمات المنطقة وفي مقدّمها سوريا، وإصرارها على تنفيذ مشروعها الإقليمي التوسُّعي الطموح جدّاً في رأيه. ثم جاء ترامب رئيساً مع كل كراهيّته لها ولنظامها.
طبعاً لا يكتفي اللبنانيّون القريبون من طهران أنفسهم بالأسباب غير المباشرة المُشار إليها، إذا جاز التعبير على هذا النحو، بل يُضيفون الأسباب المباشرة التي يمكن تلخيصها باثنين، أولهما إفلاس “بنك تسابيان” الذي يبدو أن مشهد والمناطق المحيطة بها كانت مركزاً أساسيّاً له، وخسارة المودعين فيه أموالهم. وربّما طاولت الخسارة أصحاب الأسهم غير الكثيرة العدد فيه. وثانيهما إفلاس شركة “شانديز” العقاريّة وخسارة 180 ألف مواطن إيراني أسهمهم فيها. و”شانديز” البعيدة عن مشهد نحو 50 كيلومتراً مصيف جميل أغرى رجال المال والأعمال وحُماتهم بتأسيس عشرات وربّما مئات الشركات العقاريّة. لكن انخفاض نسبة السياحة العاديّة وربّما الدينيّة أيضاً وعدم حصول الانفراجات التي كانت مُتوقّعة بعد الاتفاق النووي أوقعا الكثير منها في مصاعب. لكن المؤلم أن الإفلاس المُشار إليه لم يكن مفاجئاً. بل كان متوقّعا إذ من جهة صارح أصحاب “شانديز” حملة الأسهم باستعدادهم لدفع نصف الأرباح مع الرأسمال، وبعد مدّة عرضوا نسيان الأرباح ودفع الرأسمال، وأخيراً قالوا حتّى الرأسمال لا نستطيع دفعه. وفي هذه الأثناء لجأ المُتضرّرون أكثر من مرّة إلى الحكومة والمسؤولين والجهات المعنيّة. لكن أحداً لم يكن مُستعجلاً لحل مشكلتهم. ولم يَعُد أمامهم إلّا الخروج إلى الشارع بعد صلاة الجمعة في مشهد وبدعم من الشيخ علم الهدى والد زوجة ابراهيم رئيسي المرشّح المُحافظ الذي خسر الرئاسة لمصلحة روحاني، والذي كان مُرشّحاً لخلافة الوليّ الفقيه علي خامنئي في الوقت المناسب. وقد قال لهم: لو لم أكن في الموقع الذي أنا فيه اليوم (مسؤول الحرَم في مشهد) لنزلت معكم إلى الشارع.
هل من أسباب أخرى اجتماعيّة وسياسيّة؟