رغم كل فداحة احتمال تأجيل الانتخابات الذي يثرثر به عديدون إلا أني لن أستغرب التأجيل إذا حصل لأن الفداحة شكلية فقط بسبب وقاحة الطبقة السياسية النافذة وقوتها الفعلية إذا ارتأت مصالحها ذلك، وهي تعرف مصالحها طبعا.
ربما لم ينتبه الرئيس ميشال عون أن تأجيل انتخابات كسروان وطرابلس الفرعية هي الضربة الأكبر معنويا في عهده التي جعلت “التيار الوطني الحر”، متساويا “لااخلاقيا” مع كل الأحزاب اللبنانية الرئيسية الأخرى بسب علنية التعسّف القانوني والسياسي الذي تنطوي عليه عملية التأجيل هذه. فحتى لو سلّمنا جدلا أن موافقته حصلت فقط لمسايرة رئيس الوزراء سعد الحريري وإنقاذه من استحقاق صعب جدا والأرجح مُكْلِف جدا مهما كانت النتائج هو انتخابات طرابلس الفرعية، فقد ظهر الرئيس عون هاربا من استحقاق كسروان حتى لو لم يكن ثابتا أن مرشحه سيخسر المعركة ولو الصعبة.
هكذا منذ 2013 وبكل وقاحة تقوم الطبقة السياسية النافذة بتأجيل انتخابات ستفوز هي فيها! هذه الجملة الأخيرة تشبه النكتة رغم مأساويتها لكن التفسير الوحيد الذي يرد إليها منطقيتها، هو أن المستفيدَيْن الأكبريْن من التأجيل منذ العام 2013 هما “تيار المستقبل” أي منذ تفاقم أزمة سعد الحريري المالية والسياسية و”القوات اللبنانية” ومعهما طبعا حزب “الكتائب” حتى لو اعترض على التأجيل. لذلك سلّف الحزبان الشيعيان اللذان لا منافس لهما “على قيد الحياة الجدية” داخل الشيعة، ولا يُمكن أن يسمحا أمنياً حتى بنواة منافس جدي، سلّفا هذا التأجيل. كان طريفا ووقحا أن نسمع أن الوضع في عرسال يومها لا يسمح بإجراء الانتخابات على كل الأراضي اللبنانية. كذبة مكشوفة فُرضت فرضاً (مثل كذبة الاعتداء الشبابي على قوى الأمن خلال الحراك المدني، وإذا كان من محاولة اعتداء جدي فهي من عناصر ميليشياوية نافذة سياسيا وأمنيا تهدف لافتعال هذه الحجة).
المهم الآن 2018 تستعد جميع الطوائف – المناطق لإجراء الانتخابات. لدى كل هذه الطوائف معارك فعلية فردية وحزبية ما عدا عند “إخواننا” الشيعة.
في المناطق المسيحية كالعادة انتخابات فعلية بسبب التنوع الفعلي الحي للأحزاب والرأسماليين والكنائس والمثقفين والمهنيين والعائلات والنقابات ووو… منذ 2005 الانتخابات تجري فعليا لدى المسيحيين فقط.
في المناطق الدرزية ورغم القوة الجنبلاطية الدرزية فإن الضعف – التنوع الديموغرافي الطائفي والديني وعدم إمكان أحادية درزية يفرضان معارك وعلى الأقل تحالفات تكسر إمكانية أي وحدانية كما في السابق. إذن “عاد” الدروز إلى الانتخابات أخيرا في الشوف وعاليه.
لدى السُّنّة بدأ التفكك بعد مرحلة وحدانية. أقول التفكك وأنا بصراحة سعيد بالكلمة. لأن التفكك خبر جيد جدا للديموقراطية. لسنا في حروب، على الأقل في الانتخابات، لكي تعلن الطائفيات، الطائفيات اللبنانية، “تابوواتها” التوحيدية ضد الآخرين. وحده الدعم المالي السعودي الضخم، كما في 2009، يمكنه أن يقرر ما تبقى من التوحيد أو إلى أين يصل التفكّك السني.
الخبر السيئ للديموقراطية بل المفجع الوحيد لها هو عند الشيعة. أنسوا كل وجود منافس لـ”أمل” نبيه بري و”حزب الله” حسن نصرالله. سيقرر هذا الشخصان، إلا حيث تتقاطع مصلحة سياسية لإحدى مرجعيتيهما الحاميتين، سوريا وإيران، مع الانتخابات فيأتي إسم نائب ويذهب آخر أو تأتي حصة وتذهب أخرى.
لا انتخابات حتما في جنوب لبنان إلا بالمعنى الشكلي. ولا وجود لمنافس. بل أظن أن “الحزبين الواحد” يدرسان بدقة حاليا إمكان اختراع منافس محدود لمقعد ما، هما يقررانه مثل (مثلا) ضم نائب عن الحزب الشيوعي أخيرا إلى إحدى الدوائر. أو ضم شيوعي بارز ليس بالضرورة في الجهاز الحزبي أو تركيبات مالية وأمنية واجتماعية أخرى.
عدا ذلك طوابير، أحيانا مضحكة مبكية، من الذين ينتظرون باستثناء بعض المكرسين.
لا انتخابات في الجنوب (عدا صيدا جزين وليستا جنوبيتين طائفيا) لأن الأمر، اي السيطرة، محسوم أمنيا وعسكريا وشعبيا وأيديولوجيا وماليا وإداريا ودولتيّاً وبلديا وخدماتيا.
في البقاع الشمالي المشكلة الشكلية لـ “الحزبين الواحد” ظاهرة لكنها شكلية وليست جوهرية. في البقاع الشمالي، بعلبك الهرمل، المسرح فقط أصعب بسبب الاضطرار لمراعاة خواطر (وليس بالضرورة مقاعد) تركيبة عشائرية. لكن لا بد أن يعثر “الحزبان الواحد” (ودولتاهما الإقليميتان)، كما فَعلا دائما، على ترتيبات كاملة لا تمس بوحدانية السيطرة التي تندرج في مشروع لا يحتمل التراخي على أي جبهة، لاسيما الوحدانية.
لا تنافس داخل الشيعية السياسية في هذا الجيل، الجيل الحالي مهما كان القانون الانتخابي الذي لن يأتي إلا طبعا كما يشاء المسيطرون ومن ضمنهم المسيطران. مع ذلك مازالت الثنائية الشيعية تخاف من عدم التسجيل المسبق في حال الاقتراع في منطقة السكن. معنى ذلك حالة دائمة محكمة من الرقابة على احتمال أي تفلّت من الجغرافيا الطائفية رغم كل هذه القوة؟! وهما، الثنائي، ليسا وحدهما في ذلك بين بعض الطائفيات الأخرى، ويبدو أنها حالة من عدم الثقة “الذاتية” لا علاج له.
بدء الجواب الاستراتيجي المختلف هو في الوضعين السوري والإيراني، مثلما جاءت المفاجأة المدهشة بالنسبة للسنية السياسية من التغيير السعودي، ولكلٍّ طريقتُه.
التنوّع التنوع التنوع؟ لا يستحق الشيعة هذا القدر المديد من الإمّحاء الذي لا يعرف المراقب أين هو ذاتي وأين هو قسري. لا تستحق أي طائفة هذا الإمحاء. بالمعنى الطائفي خرج الآخرون أو معظمهم أو بدأوا يخرجون.
سأختم بهذه “القصة”:
بعد انتخابات 2009 اتصل بي الصديق الدكتور سناء أبو شقرا من الجبل (عماطور) معلّقا بإيجابية على مقالي يومها حول النضوج الفيديرالي للانتخابات البرلمانية. سألني: كيف انتخابات الجنوب؟ قلت له “الجميع” عندنا وعندكم “انتخب” بمن فيهم الأموات. قال بسرعة: لا عندنا الأمور مختلفة. قلت كيف؟ أجاب: عندكم يُرغِمون الأموات على التصويت. عندنا يأتي الأموات بإرادتهم إلى صناديق الاقتراع!