لم تنتصر روسيا في سوريا، ولا انهزمت الولايات المتحدة الأميركية. فلاديمير بوتين، اعتقد بعد سلسلة التحولات في سوريا لمصلحته، أنه قادر على صناعة مستقبل سوريا كما يرى ويريد. لم يلتفت كثيراً، إلى الآخرين، ولم يدقّق في حجم وجود كل واحد منهم على حدة. لم يفكر أيضاً بأنّ مصالحه تتقاطع مع مصالح الآخرين، ولكن أيضاً في مرحلة معيّنة يفترق عنهم، أو ينفصلون عنه، فيتأجل كل شيء بما في ذلك الحل بكل تفاصيله حتى الاستراتيجية منها.
خلال أسبوع واحد صدم «القيصر» مرتين. الأولى عندما ضربت موجة من الطائرات المسيرة، مطار حميميم، القاعدة العسكرية الروسية، حيث التقى فيها «القيصر» مع الرئيس بشار الأسد وكأنه المضيف الذي يستقبل ضيفه. من المؤكد أنّ طائرات روسية دُمّرت أو أُصيبت. ليس مهماً العدد. المهم العملية بحدّ ذاتها التي أسقطت أمن القاعدة ونزعت الاستقرار، خصوصاً أنّه من الممكن دائماً وعندما تدق الساعة تكرار العملية. باختصار لا يستطيع «القيصر» ضمان وجوده بدون القلق وحتى الخوف.
الثانية، عندما أعلنت واشنطن، أنّها ستدرّب 30 ألف جندي سوري معارض، نصفهم من الأكراد المنضوين في «قوات سوريا الديموقراطية». هذه القوة ستنتشر لاحقاً على طول الحدود مع تركيا شمالاً والعراق شرقاً على طول نهر الفرات الذي يفصل بين قوات سوريا الديموقراطية وقوات نظام الأسد. سبق لواشنطن أن وجّهت تحذيراً بوجوب عدم عبور الفرات. لم يقتنع الأسد ولا بوتين. الآن اقتنعا. الأسد اكتفى بتعليق أجهزته أن «القوات الأميركية قوة احتلال والأكراد من قوات سوريا الديموقراطية خونة».
الرئيس الروسي، استوعب أكثر «رسالة» الإعلان عن «القوة السورية الجديدة»، فكشف أنّ واشنطن تريد إفشال مؤتمر سوتشي القادم. كل ذلك يؤكد أن واشنطن عادت وبقوة إلى ساحة القرار في سوريا والعراق وما بينهما إيران. واشنطن أو بالأحرى البنتاغون أدرك معنى وخطورة اتصال طهران برّاً بدمشق من جهة، ومن جهة أخرى معنى شطب جنيف وآستانة وحصر عملية الحل في سوتشي. لذلك سارع ديفيد ساترفيلد للقول بصراحة: «تمتلك واشنطن وسائل عدّة لتقليل التأثير الروسي في نتائج المحادثات في سوتشي». الآن بعد انخراط واشنطن تقول المعارضة السورية إن «مباحثات سوتشي لم تقدم صيغة واضحة للحل».
باختصار، كأنّ كل شيء عاد إلى نقطة البداية، حيث الأميركي لا يعترف بأي انتصار روسي يتضمن انتصاراً إيرانياً، نتيجة لتحكّم الروس بالجو، بينما البرّ للإيرانيين.
البنتاغون، يتابع زرع القواعد الجوية في سوريا. قواعد ليست ضخمة لكنها عملية وفعّالة استراتيجياً. موسكو تعرف الخطوط الحمر وتتعامل معها بدقة، وواشنطن لا تتجاوز موسكو، فالتنسيق قائم حتماً.
ما يحصل ميدانياً: الطرف الذي يتجاوز أي خط أحمر، يسمع «الجرس» بسرعة وبقوة. حتى الآن لا يقول أحد من أين حصلت المعارضة المسلّحة السورية (بعيداً عن هويّتها) على الطائرات الموجهة. موسكو تعرف ولكن لا تريد الذهاب بعيداً في المواجهة. اكتفت بتدمير المخزن وقتل المقاتلين بالصواريخ الأحدث في ترسانتها.
الآن، لا بدّ من الانتظار، لاتخاذ القرار النهائي، حول كيفية المواجهة أو التنسيق، ضمن قواعد الاحترام المتبادل. في هذه الأثناء، يجب أن يتكامل ضعف الأطراف، حينها يمكن الجلوس على الطاولة، وكل طرف يعرف حجمه.
في قلب هذه المعادلة، توجد تركيا وإيران، خصوصاً أنّ معركة إدلب مفتوحة وهي ستفتح خندقاً عميقاً من الخلافات إذا لم يتم تدارك الوضع. تركيا أكثر من قلقة، إنها خائفة، من سلاح الأكراد على حدودها في شمالي سوريا وبدعم أميركي علني وواسع. على تركيا تقديم تنازلات حقيقية ومؤلمة لواشنطن حتى لا يتحوّل الأكراد السوريون جرحاً مفتوحاً في خاصرتها.
أما إيران، فإن ضعف روسيا في سوريا يريحها ويتعبها في آن واحد. ضعف موسكو يسمح لطهران بالتطلب والحصول على أقصى ما يمكنها الحصول عليه. لكن ضعف موسكو المتشكّل تحت الضغط الأميركي يتعبها أكثر ويجعلها تتخوّف من تضخّم الوجود الأميركي واضطرار موسكو لتقديم التنازلات.
الأخطر بالنسبة لإيران وضعها الداخلي.. أي ضعف في الداخل ينعكس على موقعها في الخارج، خصوصاً أنّ وجودها في سوريا والعراق في قلب أسباب الانفجار الشعبي، حيث الشعب الإيراني تعب من الإنفاق الخارجي. موسكو لا تريد ضياع طهران في مواجهات داخلية، ولكنها في الوقت نفسه لن «تبكي» إذا انشغلت طهران في مشاكلها الداخلية لأنّ ذلك يضعفها في مواجهتها ويخفّف من مطالبها. دائماً الضدّ في خدمة الضدّ والعكس صحيح.
«القيصر» بوتين يعرف جيداً تفاصيل انهيار الاتحاد السوفياتي، لذلك يخاف أن تصاب إيران بـ«الداء» السوفياتي، الذي في جميع الأحوال تتوافر كافة الشروط لنفاذه.. انخراط «امبراطوري» خارجي مُكلف، وانقباضْ اقتصادي قاسٍ ومؤلم خصوصاً بالنسبة للشرائح الشعبية الفقيرة. رغم أنّ الاتحاد السوفياتي كان القوّة العظمى في الحرب الباردة، فإن المواطن السوفياتي فقد إيمانه بهذه القوة التي تصنع أعظم الصواريخ وأقواها، وتعجز عن تصنيع ثلاجة أو سيارة قوية قادرة على تلبية احتياجاته.
البعض بدأ يقول إنّ الأزمة في سوريا طويلة وقد تستمر حتى نهاية العقد الحالي.. إذا حصل ذلك يا ويل الشرق الأوسط.