يتهكم العارفون بطبيعة العلاقات بين مصر والسودان في وصف التوتر الذي يشاع حاليا بين الجانبين بأنه من العاديات واعتبار غير ذلك من قبيل الاستثناء. والحال أن نظام الخرطوم منذ الانقلاب الذي أتى بالرئيس عمر البشير إلى الحكم عام 1989 مثّل حالة تناقض مع نظام القاهرة على الرغم من محاولة الطرفين الإدعاء بوحدة الحال والمصير لـ”أمة وادي النيل”، فكان أن تقاذفا المخاوف والأحقاد.
ومع ذلك فارتفاع الضجيج حول انتقال العلاقات الراهنة من طور البرودة إلى طور الحرب فيه كثير من المبالغة على الرغم من المعلومات المتداولة حول تحرّك قطاعات عسكرية مصرية صوب إريتريا وإعلان حالة الطوارئ في ولاية كسلا في السودان المحاذية للحدود مع أريتريا.
وما تعكّر مزاج الحكومتين هذه الأيام إلى درجة استدعاء السفير السوداني في مصر للتشاور إلا وليد غياب الكيمياء والثقة بين دولتين متجاورتين تتقاسمان النيل مع آخرين وتفرّق بينهما هواجس الأمن والعقيدة والبقاء.
زيارة الرئيس التركي إلى السودان تقلب الثوابت وتدفع بالبلدين نحو ورشة متغيرات تقلق القاهرة ولا تريح الخرطوم
لا يمكن لمصر اليوم أن تأمن لنظام في الخرطوم قام على قاعدة الانتماء لفكر الإخوان المسلمين. صحيح أن الخلاف ما بين البشير وحسن الترابي “الزعيم الروحي” لانقلاب “الإنقاذ” كان جذريا، إلا أن رجل السودان القوي غرف من قوة الأمن والعسكر والإسلام السياسي، بما فيها الجهادي، لتوطيد دعائم حكمه وضمان ديمومة سطوته. ولا يخفى على أي مراقب أن الرئيس السوداني الذي واجه حرب السودان التقليدية مع الجنوب، كما حركات التمرد في دارفور وغيرها، يمتلك من الماكيافيلية والرشاقة ما يقف وراء سرّ بقائه حاكما خلال العقود الأخيرة.
حاول نظام البشير اغتيال الرئيس المصري السابق حسني مبارك. هكذا قالت القاهرة يومها. ألصق البشير الأمر بسهولة بالترابي متخلصا من أعباء التهمة متوسلا علاقات سوية مع مصر. وحين راح البشير يستقبل قيادات الإخوان المتمردين على القاهرة مرورا بجعل السودان ملاذا لحركات الجهاد في المنطقة وصولا لأن تكون مقرا لأسامة بن لادن نفسه، لم يكن أمام القاهرة إلا التعامل مع الخرطوم بصفتها خطرا على الأمن المصري وجب التعامل معه بالعلن كما في السر.
على هذا شكا البشير أن مدرعات مصرية يمتلكها المتمردون عليه في دارفور ومثيلاتها. وعلى هذا أيضا عتبت الخرطوم على القاهرة استضافتها لمعارضي النظام كما علاقاتها الطيبة مع الجنوب قبل وبعد الانفصال. لكن في تبرّم السودان من الجار المصري ما يخفي أنشطة ملتبسة انخرطت الخرطوم في أتونها سواء في العلاقة العسكرية مع إيران وتلك الأمنية التي رعت خطوط التسلّح صوب غزة من وراء ظهر القاهرة، انتهاء بالعلاقة الخبيثة التي تقيمها هذه الأيام مع تركيا بما لا يشبه أصول الجيرة، ويكثّف عفونة تتراكم بينهما.
تمثّل أزمة حلايب، التي استعرت بوجود عسكري مصري منذ عام 1996، واجهة للطبيعة السلبية في علاقات نظامي الحكم في مصر والسودان. للقضية طابع سيادي اقتصادي عسكري أمني يثور ويخبو حتى بات من العدّة التي يتم إهمالها والاهتمام بها وفق المواسم والأمزجة هنا كما هناك. ولا ريب أن في مخاطر الوصل الحميم للخرطوم مع أنقرة إفراط يشبه الاستفزاز الذي لا يمكن أن يكون غائبا عن عقلية الحكم في السودان. فإذا ما شكّلت حلايب تحديا ضد السودان، فإن السماح لتركيا بالإطلالة على أمن مصر الإقليمي، فذلك استدراج لعثمانية تمقتها ذاكرة المصريين.
لا شيء يوحي حاليا بأن حربا قد تنشب بين مصر والسودان، لكن بالمقابل لا شيء يمنع لاحقا في أن تصبح تلك الحرب حاجة لتصفية حسابات طال التريّث في حسم مآلاتها. ليس في أجندة القاهرة تكبير للهوة مع الخرطوم، لكن لوازم الانتخابات الرئاسية المصرية المقبلة قد تتطلب رفعا في لهجة الخطاب الرسمي في هذه المسألة تسعيرا لعصبية شعبوية عابرة. بالمقابل لا يبدو السودان، كما تركيا بالمناسبة، يسعيان لإيصال الأمور، في هذا الوقت على الأقل، إلى حدود قصوى مجهولة النهايات.
وربما من الصحيح تأمل تلك البراغماتية التي يتحرك بها البشير لحماية حكمه الذي لم تصله رياح “الربيع” العربي الشهير، وهي براغماتية شديدة الانتهازية على نحو فاضح ومبهر.
نقل الرئيس السوداني على نحو غير مقنع بلاده إلى المعسكر القريب من السعودية في الحرب في اليمن مدشّنا “توبة” عن مواسمه الإيرانية والإسلاموية السابقة. عملت الرياض بجدية عالية لرفع العقوبات الأميركية عن السودان وحماية البشير نفسه من مخالب محكمة العدل الدولية. قطف الرجل ما يريد من حصاد مع السعودية قبل أن يرحل نحو قطاف آخر مع تركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان.
في تبرّم السودان من الجار المصري ما يخفي أنشطة ملتبسة انخرطت الخرطوم في أتونها سواء في العلاقة العسكرية مع إيران وتلك الأمنية التي رعت خطوط التسلّح صوب غزة
تتراكم ملفات الخلاف بين القاهرة والخرطوم، لكن العاصمتين اعتادتا التعايش وفق نمط معيّن لا يكسر المحرّمات ولا يمنع التعاون في مجالات عدة في الاقتصاد والسياسة. تأتي زيارة الزعيم التركي التاريخية (كونها الزيارة الأولى لزعيم تركي إلى السودان منذ اندثار العثمانية منه عام 1885) لتقلب الثوابت وتدفع بالبلدين نحو ورشة متغيّرات تقلق القاهرة ولا تريح الخرطوم. يعرف البشير أن مصر لن تبتلع إطلالة تركية على البحر الأحمر ولن تستسيغ وجودا عسكريا لأنقرة يطل قريبا من الأراضي المصرية. فإذا ما كانت الحرب شكل من أشكال السياسة، فإن احتمالها ليس مستحيلا في زمن التحوّلات الكبرى في هذا العالم.
واللافت في جديد الحساسيات المتدافعة بين مصر والسودان أن الأخير بات يعتبر الأولى تحديا وجب محاصرته. بات موقف الخرطوم أقرب إلى أديس بابا في النزاع المصري الإثيوبي حول سد النهضة، أي معاديا للقاهرة في ملف ساخن من شأنه أن يتحوّل إلى نزاع عسكري دفاعا عمّا تعتبره مصر حقا حيويا لاقتصادها وبقاء شعبها. واللافت أيضا أن السودان يتعايش مع مسألة الوجود التركي في جزيرة سواكن خلال القرن المقبل بصفته حقا سياديا لا يلحظ خطورة امتداد الأصابع التركية إلى فضاء جغرافي هو حق منطقي طبيعي للأمن الاستراتيجي المصري.
لا يمكن للبشير أن يحل أزمة نظامه واقتصاد بلاده بربط الخرطوم بالتحالف الذي يربط أنقرة والدوحة في موسم المقاطعة التي تشارك بها مصر ضد قطر كما في عز الخلاف البنيوي بين مصر وتركيا. ولا يمكن للرئيس السوداني أن يستند على انتهازية عجيبة تجعله مواليا لروسيا في موسكو فيما واشنطن ترفع عن بلاده عقوباتها. ولا يمكن لنظام السودان السياسي أن يستورد منظومات دفاع بعيدة مهمّشا أبجديات الأمن القومي التي لا يمكن إلا أن تكون إقليمية ملتصقة بالحدود الطبيعة الجغرافية للسودان.
قد يكون منطقيا أن يسعى البشير لتعزيز اقتصاد بلاده بعلاقات واعدة مع بلاد بعيدة. بيد أن وجود أردوغان على الشرفة المطلة على مصر، كان، وما زال، يتطلب جهدا سودانيا استثنائيا لتعزيز العلاقات مع مصر وتقديم كل الضمانات التي تعطّل الاختراق التركي في السودان من أن يكون تهديدا للأمن المصري، إلا إذا كانت الخرطوم، التي لا ترى في بياناتها الرسمية أي شيء مريب في علاقاتها الجديدة مع أنقرة، تودّ فعلا أن تجعل من صفقة سواكن تهديدا حقيقيا مقصودا للجار اللدود. يبقى أن لمصر أوراقا كثيرة في المنطقة، ومهم أن لا يصل مستوى التكاره المستبطن إلى حدود يُخرج اللعب عن قواعده.