قضت صُدف الأزمنة بأن يتجمّع في هذا العام، 2018، عدد كبير من مناسبات التذكّر الكبرى. كلّ مناسبة منها سوف تضعنا وجهاً لوجه أمام فشل كبير، ولكنْ أيضاً، وهذا أمرّ، أمام المراوحة في الأمكنة إيّاها، وفي الأسئلة ذاتها.
في هذه السنة تحلّ الذكرى الـ110 لثورة 1908 الدستوريّة التي طرحت مبادئ الأخوّة والمساواة والتمسّك بالدستور. والحال أنّ تلك التجربة، مثل قدامى اليونان، لم تترك شيئاً إلاّ قالته: من ثنائيّة الحرّيّة والاستبداد القوميّ– العسكريّ إلى المركزيّة واللامركزيّة، ومن علاقات الأكثريّة والأقلّيّات إلى الصلة بالغرب وتدخّلاته. إنّنا، اليوم، نناقش ما نوقش مرّةً بعد مرّة بين 1908 و1914.
المنطقة، بعد 1908، ما لبثت أن انجرفت في قوميّة عسكريّة تبدّت نتائجها في 1918، التي تحلّ أيضاً ذكراها الـ100 هذا العام. ففي 1918 تلقّت السلطنة العثمانيّة تلك الهزيمة الجبّارة التي أنهتها، وكانت جزءاً من نهاية الحرب العالميّة الأولى التي عصفت بالإمبراطوريّات وبالمبدأ الإمبراطوريّ.
وإذ لا تزال الحيرة حتّى اليوم تستولي علينا، في ما خصّ ثنائيّة الإمبراطوريّة والدولة الأمّة، تحلّ هذا العام الذكرى الـ90 لتأسيس جماعة الإخوان المسلمين في مدينة الإسماعيليّة. لقد كانت الحركة المذكورة، بوصفها باكورة الإسلام السياسيّ وأمّه، أوّل إعلان كبير ومدوٍّ عن الانحياز لإمبراطوريّة بات بعثها مستحيلاً. لكنْ أيضاً تحلّ اليوم الذكرى الـ 80 لظهور أحد أكثر الكتب العربيّة إثارة للجدل: إنّه كتاب طه حسين «مستقبل الثقافة في مصر». هنا نقع على دعوة إلى دولة – أمّة منقّاة من التاريخ والواقع، أي أنّها لا تقلّ استحالة عن الاستحالة الإمبراطوريّة.
وسط تفاقم الحيرة والضياع حيال معاني النفس ومعاني العالم، نشأت إسرائيل التي ستزورنا هذا العام أيضاً الذكرى الـ 70 لقيامها في 1948. لقد تخبّطنا ولا نزال نتخبّط في تدبّر أمر الحدث الضخم هذا، ولئن تراءى لنا أنّنا عثرنا على الحلّ في 1958 فهذا ما تكشّف عن وهم بالغ الضرر. ذاك أنّ الوحدة المصريّة– السوريّة، التي سيُحتفل هذا العام بذكراها الـ60، تقدّمت بوصفها الكمّاشة التي ستطبق على الدولة العبريّة من جهتيها. ما حصل فعليّاً في ذاك العام انقلاب عسكريّ في العراق وحرب أهليّة في لبنان لعبا دوراً تأسيسيّاً في بعض أسوأ ما عرفته المنطقة لاحقاً.
على النحو ذاته، سيُحتفل هذا العام بالذكرى الـ50 لمعركة الكرامة التي تُعدّ الولادة الفعليّة للمقاومة الفلسطينيّة بوصفها العلاج الأنجع لوجود إسرائيل. هذه الولادة، مصحوبة بتناقضات داخليّة في الكيانين الأردنيّ واللبنانيّ، تمخّضت عن حربين أهليّتين في البلدين. لكنّ التمزّق بلغ أدقّ أشكاله في حدثي 1978 اللذين تمرّ هذا العام ذكراهما الـ40: من جهة، توقيع معاهدة كمب ديفيد الأولى بين مصر وإسرائيل. من أخرى، الاجتياح الصغير للبنان وقيام دويلة سعد الحدّاد ردّاً على تزايد العمليّات الفدائيّة من الجنوب اللبنانيّ. إذاً: علاجان متناقضان جدّاً للمشكلة الإسرائيليّة!
«الحلاّن» لم يستقرّ المشرق العربيّ على أيّ منهما. استقرّ على المشكلة التي بدا كأنّ لا حلّ لها. هكذا اتّجهت بوصلة الدمإلى مكان آخر، إلى الجبهة العراقيّة – الإيرانيّة: هذا العام تحلّ الذكرى الـ30 لنهاية تلك الحرب المديدة والمدمّرة. انهزم الطرفان أو انتصر الطرفان، لا فرق. بقي، كما تبيّن لاحقاً، أنّ هذه الجبهة المثقلة بحمولة التنازع السنّيّ– الشيعيّ ذات جاذبيّة صاعدة تغلب الجاذبيّة الهابطة لـ «صراع الشرق الأوسط».
بعد ذاك سبات وركود، خرقهما بن لادن بـ «غزوة نيويورك»، وجورج دبليو بوش بحرب العراق، وبشّار الأسد باغتياله رفيق الحريري. الحدث الأوّل كارثة. الثاني مصيبة. الثالث ورطة. جاءت الثورات لكنْ تلتها الثورات المضادّة وتغلّبت عليها.
«فكر ماهويّ» يقول البعض. بل «تاريخ ماهويّ»، أي لا تاريخ، يردّ بعض ثانٍ. حتّى إشعار آخر، نحن عالقون فيه وهو عالق فينا!