قبل عقود، راجت دعابة في لبنان وسوريّة عن تلميذ «بطل». ما جعله يستحقّ نعت البطولة أنّه، في عهد الانتداب الفرنسيّ، نال صفراً في حصّة اللغة الفرنسيّة. إنّه يكره لغة المستعمِر ويقاطعها.
النكتة، التي جعلها البعض كليشيهاً، عبّرت عن مزاج ما في الوطنيّة: مزاج بدائيّ وبالغ الجلافة.
الناصريّة واليسار أدخلا لاحقاً معانيَ أغنى لـ «الوطنيّة»: التنمية والتبعيّة والاستقلال عن السوق الرأسماليّة. المشكلة في الاقتصاد، لا في اللغة. لكنّ سياسات تأميم التعليم والتجارة الخارجيّة، والحرب على دور الوساطة مع الخارج، أعادت الاعتبار للدعابة– الكليشيه. لقد انتهت بلدان كمصر والعراق وسوريّة، هي الأسبق في التقدّم في العالم العربيّ، فقيرة في اللغات الأجنبيّة وفي الكفاءات التي ترتبط بمعرفتها. مع قدوم العولمة، التي جعلت الإنكليزيّة اللغة الأولى عالميّاً بلا منازع، وأعطت للمعرفة وحرّيّة المخيّلة والابتكار دوراً غير مسبوق في الاقتصاد، انكشفت العيوب التي أسّستها أنظمة التأميم. انكشف حضورها الهزيل في الإنتاج والإنتاجيّة والمنافسة.
في هذه الغضون، وفي روايته «ليرننغ إنغليش»، عامل الروائيّ اللبنانيّ رشيد الضعيف تعلّم الإنكليزيّة، بوصفه أحد المضادّات الحيويّة للغرق في دمويّات الثأر والقتل انتقاماً. هذا، بالطبع، لم يحل دون نظريّات متفذلكة صدّرتها إلينا الجامعات الأميركيّة تقول بطريقتها إنّ الذي ينال صفراً باللغة الأجنبيّة بطل.
هذه العناوين جميعاً أعادها إلى الواجهة، قبل أيّام، السيّد علي خامنئي: لا لتعليم الإنكليزيّة لتلامذة الابتدائيّ. هكذا يُصدّ «الغزو الثقافيّ» وتُعزّز اللغة الفارسيّة. وبعد كلّ حساب، يبقى «التعليم في الصغر كالنقش في الحجر». في الوقت نفسه وباليد الأخرى، كان السيّد الخامنئي يمضي في تعطيل وسائط التواصل الاجتماعيّ، إذ تلامذة الثانويّ وطلّاب الجامعة (الذين اعتُقل الكثيرون منهم مؤخّراً) ينبغي لهم، هم أيضاً، أن لا يعرفوا الكثير. إنّ ما عندنا أكثر من كافٍ.
في الأمر قدر من الدجل لا تستره العنجهيّة القوميّة الفارغة: فإذا كانت الاحتجاجات الأخيرة من طبيعة اقتصاديّة، فإنّ الردّ عليها جاء من طبيعة ثقافيّة، أو بالأحرى تعليميّة. المراهنات على عوائد رفع العقوبات لم تفلح. متطلّبات الرشوة الواسعة لم تتجمّع في اليد. الاستفادة الاقتصاديّة والماليّة من الصلة بالغرب لم تتحقّق. الإيرانيّون غضبوا واحتجّوا في الشارع. سلطتهم منعت تعليم الإنكليزيّة لتلامذة الصفوف الإبتدائيّة وعطّلت التواصل الاجتماعيّ لمن هم أكبر سنّاً.
إنّها ترجمة فجّة وقصوى لتلك النظريّة التي تجمع بين رغبة الاستفادة الحقيقيّة من «التبعيّة» الاقتصاديّة، والصراخ «الثقافيّ» ضدّها وضدّ «غزوها».
النظام، الذي سبق له أن دشّن «ثورة ثقافيّة» تعيسة، يربّي الإيرانيّين على نحو سيّئ ويعدّهم لأن يكونوا من الخاسرين في هذا العالم. بهذا، يعلن فساد أبوّته عليهم بوصفها أبوّة عليا. فهو يؤسّس طقوساً أخرى للبلوغ، مؤلمة وعقابيّة مثل طقوس البلوغ كلّها. وهو يقول، بقراره هذا، إنّ استمراره في وظيفة الأب الأعلى بات مشروطاً ببقاء الأطفال أطفالاً، بل أطفالاً أغبياء. أغلب الظنّ أنّ غضب الطفل الذي يعرف أنّه محكوم بأن يبقى طفلاً يصنع المعجزات.