لم يعد ينفع الشجب ولا الغضب. ولم تعد النصيحة تجدي ولا العظة. كثر الكلام عن الأحوال والأهوال التي يعيشها لبنان والعالم العربي. وتراكمت الدراسات والمقالات التي تدعو إلى إعادة قراءة التاريخ وخلط الأوراق وتصويب وجهات النظر وتصحيح المسارات.
هذه المجهودات والإسهامات الواعية، الريادية، الرؤيوية على أهميتها، تبقى عاجزة عن حل اللغز الكوني الذي يضع المواطن، ومن خلفه الإنسان، في عين العاصفة. إذ أن هذه القراءات على دقتها ونفاذ بصيرتها، تتوقف عند تجليات الاعتلال او الاختلال الذي حلّ بنا سواء على صعيد السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو الفكر.
إلا أن المسألة أخطر من ذلك. مفاتيح اللغز ليست في التاريخ ولا في التركيبة الجيوسياسية ولا في الممارسة الديموقراطية، فهذه مَواطن تجليات الخلل. اللغز مكمنه الإنسان، ومفاتيحه أنثروبولوجية وفلسفية لا محالة.
كل كائن حيّ يسعى إلى البقاء وإلى الاستمرار. يقول سبينوزا إن سنّة الحياة هي النمو والعمل على تحقيقه. نحن كائنات تحرّكها رغبة في النمو والتوسّع ولذّة تلي تحقيق تلك الرغبة. مبدأ التوسع هذا لصيق بمفهوم الأرض والحدود لأن حركة النمو والانتشار لا بد لها من أن تطال أرض الآخر وكيانه.
وعليه، فإن حركات الاستعمار والإمبريالية ومعها الرأسمالية وأحلام الخلافة الإسلامية والأمبراطورية العثمانية وملوك الساسانيين وأرض الميعاد وقياصرة روسيا والقدر الأميركي وأساطير العصور الذهبية والإصرار على بعثها؛ هذه الحركات ليست إلا انعكاسات لهذا القانون الطبيعي أيضاً.
نحن أيتام الشرق القديم، والأوصياء علينا أكلوا مال اليتيم. نحن في حالة تغريب عن ذواتنا. وكيف نكون، ولغتنا في تدهور، وتاريخنا في نسيان، وآثارنا في اندثار، ومعارفنا في تقلّص، وحرياتنا في تقويض؟
نحن في حالٍ من الانحلال الحضاري أو التحلل. بلغنا نهاية المسار وبتنا في مشهد يذكّر بنهاية العالم من الناحية الحضارية. لن يكون لنا خلاص بمجرّد التحذير والدعوة إلى التغيير، ولن تكون لنا قيامة بفضل بعض الإصلاحات السياسية والإدارية، ولن يحلّ علينا الوعي بفيض من الإله. إن الوعي والحس النقدي والإحساس بالمسؤولية والمواطنة والابتعاد عن الأحكام المسبقة وردود الأفعال التلقائية واحترام الآخر والاختلاف والتعدد وقبوله ولا أقول تقبّله، مسيرة طويلة وفلسفة وجود لا تتأتى بالتطبيع الثقافي. إنها فعل بناء في ركائز شخصية المواطن الإنسان.
التغيير هو عمل في الإنسان الفرد الواحد قبل أن يكون في الجماعة. لذلك هو فعل تربية وتنشئة وتهذيب وصقل. وهو عمل في الذات الراغبة التي فيها جموح إلى التوحش، والساعية طبيعياً إلى البقاء والنمو والتوسع والمستعدّة أبداً لارتكاب أفظع أشكال الهمجيّة من أجل البقاء.
لن تكون لنا قيامة، لا في لبنان ولا في أي بقعة من العالم، قبل أن نعي أن المعركة الأولى، أمّ المعارك، هي في ذات الإنسان، لأن ما نشهده اليوم من فوضى كوكبنا ليس إلا تجاذباً بين التوحّش البدائي والمدنيّة، بين الطبيعي والثقافي، بين النيئ والمطبوخ على حد تعبير ليفي ستراوس.
لن تحلّ علينا نعمة قبل أن تصبح الأخلاق والمعيار الأخلاقي من أولوياتنا في التفكير وفي التعاطي وفي سن القوانين وتطبيقها وفي التربية، التربية على الخير والحق والعدل والجمال والمحبة.
التربية ليست فقط عملية بناء. هي أحياناً بل غالباً ما تكون عملية تفكيك لعقود وألفيات من أنماط التفكير والسلوك والأحكام المسبقة الموروثة. التربية ليست مسؤولية الدولة وحدها. التربية مسؤولية الأهل والعائلة والمجتمع والمدرسة والجامعة في أساليب التعامل وفي المناهج وفي بلورة النشء وفي عين ساهرة حاضنة عطوفة.
في خطابه، ليلة رأس السنة، قال ماكرون مستلهماً خطاب كينيدي الذي ألقاه في العام 1961: اسألوا أنفسكم كل صباح ماذا بإمكانكم أن تقدّموا لبلدكم؟
فأنصتوا، واقرأوا، وجدّوا، وشجّروا، وقدّسوا، وسبّحوا، واعتبروا، وعوا، ليكون الوطن في مساحة الإنسان على صورة الوطن بحدوده الجغرافية. حتى يصير كل إنسان وطناً، الوطن.