حين انطلقت أحداث الربيع العربي في تونس، وانتقلت إلى عواصم عربية في عام 2011، أعرب النظام الإيراني عن تأييده للتغيير في البلدان العربية علنا، لكنه كان يخفي خشيته من وصول عربة التغيير إلى طهران؛ لا سيما وأنه كان قد خرج لتوّه من أزمة كبيرة إثر التظاهرات التي شهدتها البلاد بعد انتخابات عام 2009.
وزاد هذا القلق حين وصلت عربة التغيير إلى دمشق، وكادت تُسقط حليفه بشار الأسد، وأدرك النظام الإيراني أن سقوط حلفائه في المنطقة سيسرع في انهياره، فبذل ما بوسعه لمنع سقوط الأسد مخاطرا بصورته في العالمين العربي والإسلامي، وقدم له كميات كبيرة من الأسلحة وأموالا طائلة؛ برغم أنه كان يعاني من مصاعب كبيرة بسبب الحظر الاقتصادي المفروض على البلاد نتيجة البرنامج النووي.
وبعد أن نجحت الحكومة الإيرانية في حل أزمة البرنامج النووي عام 2015، كان من المتوقع أن تشهد البلاد انفراجا اقتصاديا؛ لا سيما وأن تقارير تحدثت عن أن طهران ستحصل على 150 مليار دولار من أموالها المجمّدة في البنوك الأوروبية والأميركية. لكن أفسد انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة آمال روحاني، وذهبت معظم الأموال التي استعادتها الحكومة إلى الحرس الثوري، الذي استخدمها لتعزيز نفوذ إيران في المنطقة. في حين أن الفقر والفساد والبطالة والغلاء مازالت تعصف بالبلاد.
خلال الشهور الأخيرة، شهدت المدن الإيرانية العشرات من الاحتجاجات والاعتصامات المحدودة في مناطق مختلفة من البلاد، لكن الحكومة لم تستجب لمطالب المحتجين، الذين تنوعت فئاتهم بين مطالبين باستعادة أموالهم من مؤسسات مالية تملكها شخصيات محسوبة على النظام بعد أن أعلنت إفلاسها ولم تُعِد للمودعين أموالهم، ومعلمين ومتقاعدين لم يتقاضوا رواتبهم لعدة شهور، وعمال خسروا أعمالهم بعد إغلاق مصانعهم نتيجة إفلاسها، وخريجين جامعيين لم يحصلوا على فرصة عمل.
وقد أدى عدم الاستجابة لمطالب المحتجين بفئاتهم المختلفة إلى فقد الكثير من المواطنين أي أمل في الإصلاح، الذي كان الرئيس روحاني قد وعد بتحقيقه منذ خمس سنوات، وأكد عليه في حملته الانتخابية منذ أقل من سنة، وشعر هؤلاء بأن الرئيس قد خدعهم، أو أنه غير قادر على إنجاز التغيير المطلوب، فتراجع خاضعا لسلطة المرشد والحرس الثوري.
ومما سرّع في اندلاع الاحتجاجات الأخيرة، عزم حكومة روحاني قطع المعونة الحكومية عن 30 مليون مواطن، ممن لا يعتبرون فقراء بنظر الحكومة، وكذلك الميزانية المقترحة للسنة المالية الجديدة، التي تتضمن رفع قيمة المحروقات ومنها البنزين إلى الضعف ومضاعفة الضرائب، وخفضُ ميزانية المشاريع التحتية، مقابل تخصيص ميزانيات ضخمة للمؤسسات الدينية، ولأذرع النظام المذهبية والإعلامية، إضافة إلى زيادة ميزانية المؤسسات العسكرية، ومنها الحرس الثوري أكثر من 40 بالمئة عن العام الماضي.
لا شك، أن العامل الأساسي لنزول المعترضين إلى الشوارع في مشهد يوم 28 ديسمبر الماضي، وفي العشرات من المدن بعد ذلك، هو سوء الأوضاع المعيشية، لكن الاقتصاد غير منفصل عن السياسة، فسوء الأوضاع المعيشية ناجم عن سوء إدارة السياسيين، وهذا يجعل من الممكن القول، إن سبب الاعتراضات يتجاوز الأوضاع المعيشية، ويعبر عن استياء المواطنين من النظام، وأنه لم يعد بقدورهم تحمّل المزيد من الضغوط. وجاءت الأحداث الحالية نتيجة لتراكم معاناة المواطنين من الفقر والفساد والبطالة والظلم والنقمة على النظام الذي يبدّد أحلامهم في ضخ أموال الدولة خارج البلاد؛ خدمة لمصالحه الخاصة على حساب مواطنيه.
وإذا قبلنا رواية النظام، بأن أيادٍ خارجية قد تسبّبت باندلاع الاحتجاجات، فلا شك أن العوامل الداخلية تجعل إيران مهيأة لاندلاع ثورات في كل لحظة. صحيح أن الدول المنافسة لإيران، وبعض القوى الأجنبية، ستكون مسرورة بالقلاقل الحاصلة للنظام الإيراني، لكن هناك شكوك كثيرة حول قدرتها على التأثير في الداخل الإيراني.
وأيّا كان المتسبب في اندلاع الاحتجاجات، فهي تشكل بشعاراتها التي استهدفت النظام وشخص المرشد صفعة قوية لشرعية النظام، الذي يرتكز على مبدأ ولاية الفقيه، وهزة كبيرة لمكانة المرشد، الذي حاول بعد تظاهرات عام 2009 إعادة الهيبة لمكانته، التي تزعزعت بعد وقوفه إلى جانب أحمدي نجاد.
ولا شك أن المحتجين الإيرانيين لم ينتفضوا على النظام بسبب سياسته التوسعية في المنطقة، وتسببه بمقتل الآلاف من السوريين وتهجير ونزوح الملايين، إلا أن الشعارات التي أطلقت ضد سياسات النظام في سوريا، تُثبت فشل دعايته بشأن الدفاع عن الحرم والقول بأنه إذا لم يحارب هناك، عليه أن يحارب في طهران.
ومن السيناريوهات المتوقعة أنه إذا ازداد زخم الاحتجاجات في الأطراف أو شهدت العاصمة والمدن الكبرى احتجاجات كبيرة والتحقت الطبقة الوسطى والطلبة؛ لا سيما في طهران بالمعترضين، فلن يكون من السهولة قمعها، وستكون الخيارات كلها مفتوحة.
وسيضعف إخماد الاحتجاجات من مشروعية النظام أمام مواطنيه، وأمام دول العالم، وسيزيد من عزلته، ويقلل من فرص إقامة علاقات اقتصادية جيدة مع أوروبا، ما سيفاقم من سوء الأوضاع الاقتصادية.