جرّت أزمة مرسوم منح الأقدمية لضباط «دورة عون» وراءها مشكلة تلوَ الأخرى. وما بين عودة الانقسام حول تعديلات في قانون الانتخابات والفتاوى الدستورية التي تصدر من هنا وهناك، أصبح الخلاف أوسع من نزاع على توقيع أو مرسوم أو إصلاح انتخابي، وبلغ مصاف الصلاحيات الدستورية وتفسير اتفاق الطائف والمسّ بالأعراف.
وفيما جمّد الرئيس سعد الحريري حركته وبقي حزب الله على موقفه الداعم للرئيس برّي من دون خطوات فاعلة لحل الأزمة، يرتفع سقف الخلاف بين الرئاستين الأولى والثانية، ما ينذر بتوترات يُمكن أن تنسحب على ملفات أخرى، قبل الانتخابات وخلالها وبعدها.
لكن أخطر ما في هذه الأزمة أنها أخذت منحىً يبشّر بتباعد بين التيار الوطني وحركة أمل، يصعب إصلاح تداعياته مستقبلاً. وبدأ بعض المسؤولين في التيار الحديث بلغة تهديدية تنذر باستمرار الأزمة إلى ما بعد الانتخابات النيابية المقبلة. ويقول هؤلاء إن «على بري أن يعرف أن انتخابه رئيساً لمجلس النواب بعد الانتخابات المقبلة ليس مضموناً. وكما أنه لم ينتخب العماد ميشال عون للرئاسة، فإننا لن ننتخبه لرئاسة المجلس»، الأمر الثاني الذي يهدد به مسؤولون عونيون هو «منع حركة أمل من الحصول على وزارة المالية، تجنّباً لتكريس عرف يمنحها حق النقض من خارج الدستور». حتى الآن ليس من رسالة رسمية تلقتها عين التينة بشأن هذا الأمر، غير أن مصادرها تعتبر أن هذا الكلام من شأنه أن «يرسم مصير استحقاقات كبيرة في إدارة حكم البلاد، كذلك رئاسة الحكومة والجمهورية في ما بعد. فإذا كان فريق بعبدا يرى أنه قادر على ضرب الأعراف، فهذا الأمر لن يطاول الرئاسة الثانية وحدها، ولا وزارة المالية». ومع أن بعض القوى لا تأخذ كلام المسؤولين العونيين على محمل الجد، على اعتبار أن التيار الوطني الحر «بات يدرك حقيقة التوازنات في البلاد»، ترى عين التينة في «مرسوم الأقدمية» معركة سياسية كبرى «لا خلافاً موضعياً، بل هو أكبر من مرسوم، لا بل هو مشروع متفق عليه بين بعبدا والسرايا الحكومية، بشكل يتيح لعون إطاحة دور مجلس النواب أو السيطرة عليه، كما فعل في مجلس الوزراء، في ظل تسليم الرئيس الحريري له». وفيما لم ينفِ أحد الأعضاء البارزين في تكتل التغيير والإصلاح صدور «تهديدات من هذا النوع» عن مسؤولين عونيين، فإنه أكّد أن «الذين يتحدّثون بهذه اللغة لا يعرفون شيئاً عن التوازنات التي تحكم العمل السياسي في البلاد، ويتوهمون بأن منصب رئاسة مجلس النواب يخضع لمعركة عددية». ورأى النائب العوني أن «مرسوم الأقدمية لم يكن يستأهل كل هذه الضجة من قبل الرئيس بري، وكان في مقدوره تمريره بلا ضجيج، وتسجيل اعتراضه لدى رئيس الجمهورية. لكن يبدو أن بري فضّل خوض معركة استباقية لضمان الاحتفاظ بوزارة المالية منذ الآن في الحكومة المقبلة». وفي السياق عينه، أكّد مصدر قريب من رئيس الجمهورية لـ«الأخبار» أن عون «لم يصعّد في وجه بري عندما دعا إلى الاحتكام إلى القضاء لبتّ أمر المرسوم، بل على العكس من ذلك، فإنه أراد فتح باب لحل الأزمة».
وفي هذا الإطار، أطلق النائب وليد جنبلاط أمس موقفاً يؤكد فيه وقوفه إلى جانب برّي في هذه المعركة، مشيراً إلى أنه «لا لزوم لمرسوم الترقية، وأما وقد خرج المرسوم، فلا لزوم لعزل رئيس مجلس النواب»، لافتاً في حديث تلفزيوني عبر شاشة «المستقبل» إلى أن «بري أرسل لي مشروع حل مع النائب وائل أبو فاعور، وهو سيقدمه إلى الحريري، وإذا وافق كان به، ومشروع الحل هو لإعادة الأمور إلى دستوريتها». وشدّد على أنّ «الانتخابات هي مجال للتلاقي بين جميع الأطراف، وإن لم نلتقِ فليكن هناك تنافس بين الجميع، وبالنسبة إلى الحزب الاشتراكي لا مشكلة لأيّ تحالفات بين الفرقاء، ومنفتحون على الجميع». وأكّد جنبلاط أنّ «الحديث عن تحالف خماسي يعني عزل فريق ما، وأنا ضدّ عزل أيّ أحد، وهناك تغييرات ستطرأ على مرشحينا». وتابع: «لم أتمكّن حتى الآن من فهم القانون الانتخابي جيّداً، ولا يمكنني أن أتوقّع حجم كتلتي النيابية المقبلة، والقانون الجديد له حيثياته الجديدة ولا أريد أيّ غلطة حسابات لأنّني غير متمكن من القانون الجديد». وفي مجال آخر، قال جنبلاط: «كلّ الناس ترتقي بكفاءاتها، فلِمَ لا نرتقي نحن، ولمَ نحتاج لشركة ماكِنزي (التي قرر مجلس الوزراء التعاقد معها لوضع تصوّر للاقتصاد اللبناني، وهي الشركة التي أعدّت رؤية 2030 التي قدّمها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان)؟». وسأل جنبلاط: «ألا يوجد اقتصاديون وكفاءات في لبنان حتى نحضر ماكِنزي؟ هل ماكنزي ستستمع إلى خبرات الشفافين في الإدارات؟ يلي جايبين ماكِنزي حمير».
وعلى صعيد آخر، زار أمين سر تكتل التغيير والإصلاح النائب إبراهيم كنعان مساء أمس معراب، حيث استقبله رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، بحضور وزير الإعلام ملحم رياشي. وقد وضعت مصادر القوات اللقاء في سياق «اللقاءات العادية التي تهدف إلى إعادة تمتين وتحصين العلاقة بين القوات والتيار الوطني الحرّ، بعد التوتر الذي حصل بينهما». وقالت المصادر إن «كنعان أتى ليؤكد أن العلاقة لم تنقطع يوماً، وأن التواصل قائم، وقد وضع قيادة معراب في جو كل ما يحصل في البلاد، من أزمة المرسوم وصولاً إلى الانتخابات وقانونها». وأكدت أن الزيارة «لا تؤسس لأي لقاء قريب بين جعجع ورئيس الجمهورية أو الوزير جبران باسيل»، لكنها «تساعد على تنشيط التواصل والتنسيق بين الطرفين». في المقابل، أكّدت مصادر في التيار لـ«الأخبار» أن هذه الزيارة «لن تؤدي إلى تحسين العلاقة بين التيار والقوات، لأن الخلافات بيننا صارت أعمق من أن تُداوى بزيارة».