ضجيج التّصادمات بين الشخصيّات التي تُحيط بالرئيس دونالد ترامب لربّما يُخفي وتيرة التماسك الصاعد في السياسات الخارجيّة.
الوهلة الأولى تُوحي أنّ إدارة ترامب بأجمعها مبعثرة على تغريدات رئيسٍ غير منضبط وانفصام بين وزير خارجيّةٍ شبه صامت، ريكس تيليرسون، وبين العضو في الإدارة السفيرة لدى الأمم المتّحدة نيكي هايلي التي اكتسبَت سمعة الصقر الذي لا يتوقّف عن الصياح. بعد التدقيق في تدرُّج سياسات إدارة ترامب في أعقاب الوهلة الأولى، تبرز ملامح صعود سياسات متماسكة عناوينها الرئيسيّة هي أولاً: العلاقات مع روسيا بالذات في مواقع الخلافات الجذريّة الممتدّة من أوكرانيا الى إيران والتي باتت الساحة السورية ميداناً رئيسياً لعملية ضبطها.
ثانياً: التحالفات الإقليمية حيث بات واضحاً في الشرق الأوسط أنّ التحالفات التقليدية مثل الأميركيّة - السعودية هي الأساس لإدارة ترامب انطلاقاً من اقتناعها بأنّ الرياض شريك أساسي في احتواء الراديكاليّة السنّية المتطرّفة وأنّ طهران مصدر الراديكالية الشيعيّة وتصدير التطرّف الشيعي الذي يُساهم في إنبات التطرّف السنّي.
ثالثاً: اعتبار الصين تحدّياً مؤجّلاً بَعيد المدى مع الإقرار بفوائد التفاهم مع الصين من أجل معالجة ملفّ كوريا الشمالية الذي يبقى في مرتبة التأهّب نظراً للمواجهات الشخصيّة بين القيادتين الأميركيّة والكورية الشمالية.
رابعاً: النظر إلى دول مثل تركيا بأنّها ضمن الأولويّات المؤجّلة المتوسّطة المدى.
خامساً: استخدام «القوة الناعمة» مع شتّى الدول والتنظيمات الفاعلة فيها والأفراد الذين يركنون بأنّهم تحت الرادار- وذلك من خلال عقوبات جاهزة ومراقبات قيد الإجراءات المفاجئة للشّخصيات التي تُفرط في التذاكي وتُتقن الفوقية.
سادساً: الحفاظ على مركزيّة ونوعيّة علاقة التحالف المميَّز مع اسرائيل لأنّ القاعدة المسيحية الموالية لدونالد ترامب هي الاكثر تطرّفاً في حماية إسرائيل من المحاسبة. سابعاً: الضغط على الحلفاء الأوروبيّين بالذات في إطار الموافقة على أداة العقوبات كـ«قوة ناعمة» مع التلويح بأنّ «القوة الفاعلة» جاهزة إمّا عسكرياً أو عبر تمزيق اتفاقيّات على نسق الاتفاق النووي مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
وثامناً، إعادة خلط أوراق واستراتيجيّات تميَّزت بها سياسات الرئيس الأسبق باراك أوباما على نسق إبلاغ إيران أنّ العقد الذي مكّنها من اعتلاء منصّة الانتصار والهيمنة الإقليميّة انتهى مفعوله أميركياً.
مستشار الأمن القومي هربرت ماكماستر، يبدو أهمّ الماسكين زمام السياسات الأميركيّة الخارجيّة، بجانبه صهر الرئيس جاريد كوشنر، ومعه مدير وكالة الاستخبارات المركزيّة CIA مايكل بومبيو الذي يُذكر اسمه تكراراً كمرشح لمنصب وزير الخارجية في حال إنهاء ولاية ريكس تيليرسون في المنصب. تيليرسون يؤكّد أنّه باقٍ في المنصب وهو يُوحي بأنّه الصّوت العاقل في إدارة ترامب ويَزعم أنّه حجَر أساسي في توجّهاتها الآتية.
إنّه يتقبّل ضجيج نيكي هايلي مُرغماً لأنّها مقرّبة من الرئيس. لكنّ تيليرسون يُدرك أنّ أفول نجم ستيفن بانون كصديق للرئيس بسبب كتاب «نار وغضب: داخل بيت ترامب الأبيض» سيكون في صالح نيكي هايلي علماً أنّ بانون لم يكنّ لها الكثير من المودّة. بانون الذي كان له نفوذ رهيب على البيت الأبيض قبل مغادرته له مُجبراً حاول الاحتفاظ بتأثيره الواسع.
لكنّ دونالد ترامب تمكّن من احتوائه عبر داعميه ومموّليه وانتصَر عليه لدرجة تقدّم بانون بالاعتذار عمّا فعل عندما لم يتصدَّ لكتاب مايكل وولف وبعدما أخطأ بحق ابن ترامب. فالعائلة أولاً في قاموس ترامب. وما قام به بانون لا يُغتفَر.
وزير الدفاع جايمس ماتيس كان في البداية نجماً في إدارة ترامب لكنّ نجمه انحسَر في خضمّ تصادم الشخصيّات وتراجع التعهّدات وإعادة النظر في المواقف كتلك المعنية بإيران.
إنّه من الذين رأوا في سياسات أوباما نحو إيران فوائد وعِبَراً، لكنّه لاقى مقاومة كبيرة لم يكن يتوقّعها إذ اعتُبِر تراجعه عن مواقفه السابقة بأنّه شهادة على أنّه «ليبرالي في الخزانة»، فيما كان في نظره، يتطوَّر الى «البراغماتية» التي تضمَن عدمَ تورّط أميركا عسكرياً أينما كان.
نيكي هايلي وصلت مقرّ الأمم المتّحدة مهدِّدةً ومتوعِّدةً لكلّ مَن لا يقف مع أميركا. قالتها بوضوح: سندوِّن الأسماء، وسنُحاسب. أوضحت أنّ أولويّتها هي إسرائيل وإعادة تأهيل إسرائيل في المنظمة الدوليّة ليس فقط كدولة اعتيادية وإنّما كدولة متفوّقة بسبب علاقاتها العضوية مع أميركا.
توعَّدت ونفَّذت في مسألة القدس. عقدت العزم على تَحجيم المنظمة الدوليّة، وفعلت من خلال تدجين الأمانة العامة ومن خلال ترهيب الدول الأعضاء. لكن نيكي هايلي طموحة لأبعَد من منصبها. إنّها تَبني على القاعدة الشعبية لدونالد ترامب وتستعدّ لتكون المرشّحة للرئاسة لاحقاً.
لذلك، إنّها في نظر البعض شرسة سياسياً في طموحاتها الشخصية وهي تتَّخذ استعداداتها باكراً. وهي، في رأي البعض الآخر، تُغامر لأنّها «تقف بين المايسترو والأوركسترا»، وتُفرط في إبراز نفسها على حساب ترامب.
ملف إيران مهمّ لدى نيكي هايلي، وإن كان بقدر أقلّ نسبياً من أولويّة الملف الإسرائيلي. استخدمت منبر الأمم المتحدة لتسويق السياسات التي تُريدها - ويُريدها الرئيس - بلا تردّد، بل بهجوميّة لا تأبَه بردود الفعل الدوليّة، بما في ذلك من قِبل حلفاء وأصدقاء الولايات المتّحدة.
نيكي هايلي جرّافة تفتخر بأنّها تلتزم بشعار «أميركا العظمى أولاً». لا يُزعجها أن يكون وزير الخارجية في موقع آخر. فهي تنظر الى نفسها بأنّها عضو في إدارة ترامب كما تيليرسون، وهي اختارَت تحالفاتها داخل الإدارة بشطارة فجعلت عنوان التّنسيق لها البيت الأبيض وليس وزارة الخارجية. أي، إنّها تُنسّق مع دونالد ترامب وهربرت ماكماستر.
إذا بقيَ تيليرسون في منصبه، الأرجح أن يكون عليه التأقلم مع قادة الاستراتيجيّات الأميركيّة الخارجيّة أي ماكماستر وبومبيو ويُعدّل سياساته كي لا تبقى منوطة حصراً بالنفط والغاز، وإلّا فإنّ إمّا بومبيو أو هايلي سيحلّ مكانه - والكلام اليوم يُرجِّح بومبيو. هذا يعني أنّ على تيليرسون أن يقتنع ويُنفّذ السياسات الاستراتيجيّة.
إقليمياً، عنوان هذه الاستراتيجيّة هو العلاقة التحالفية المميّزة مع السعودية والإمارات بأبعادها الإيرانية والقطرية. هذه الإدارة تُريد التماسك في مجلس التعاون الخليجي وهي - عكس تيليرسون - ترى أنّ العبء يَقع على أكتاف قطر في إطار مجلس التعاون. أما فيما يخصّ إيران، فإنّ القرار الاستراتيجي هو كبح نشوة الانتصار الإيراني إقليمياً ولجم التوسّع الإيراني في الجغرافيا العربيّة.
فيما يتعلّق بروسيا، إنّ القرار الجديد لإدارة ترامب هو أنّ أميركا باقية في سوريا. باقية كقوّات في قواعد وكقوة في «تحالف دولي» قادر على قطع طريق التفاهمات الروسيّة - الإيرانيّة في سوريا.
قرار إدارة ترامب ينبثق من الاستنتاج أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليس مهتمّاً ولا جاهزاً لأن يكون شريكاً مع إدارة ترامب في سعيها لاحتواء التوسّع الإيراني في سوريا وتوطيد وجودها هناك. وهو ليس صادقاً، كما استنتجت إدارة ترامب، في إيحائه بأنّ العلاقة الثنائية الروسية - الأميركية لها الأولويّة.
لذلك قرَّرت إدارة ترامب قطع الطريق على مسيرة قطف ثمار الاستثمارات الروسية في سوريا. قرَّرت عرقلة استئثار موسكو بالعمليّة السياسية عبر «عملية سوتشي» لتحلّ مكان «عملية جنيف». أبلغت الى موسكو أنّها باقية عسكرياً وسياسياً. أبلغت أنّ خططها للعملية السياسيّة والاستثمارات والقواعد وإعادة البناء لن تنطلق كما اشتهت السفينة الروسية لأنّ الرياح الأميركية ستُعيقها.
موسكو غاضبة. طهران تشتاط غضباً لأنّ السياسات الأميركية الجديدة عرقلت مشاريعها الإقليمية وتعاضَدت مع المعارضة الإيرانية الداخلية. تركيا قلقة لأنّها مطوّقة بالسياسات الجديدة لإدارة ترامب بعدما اعتقدت أنّها ضمَنت الاستقواء عبر معادلة استانة الثلاثيّة، الروسيّة - الإيرانيّة - التركيّة. أوروبا قلقة لأنّها بدأت تحسّ بالسّخونة الأميركيّة وتخشى أن لا تتمكّن بعد الآن من سياسات تهادنيّة مع إيران ضماناً لمصالحها الضيقة.
العراق يَعرق لأنّ الرقص على الحبال المشدودة ليس مضموناً لا سيّما في مرحلة إنتخابية ولأنّ المعادلة تضع قياداته بين الضغوط الأميركية والإصرار الإيراني على الاحتفاظ بالحشد الشعبي مثالاً حيّاً لتصدير نموذج النظام في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
سوريا لم تعُد آمنة الى إعلان الانتصار قريباً وتلقين دروس لأيّ ممّن اعتقد أنّه انتصار وهميّ أو عابر. لبنان ما زال يدفن الرأس في الرمال ويَعتقد رجاله أنّهم فوق المحاسبة فيما دقات القلب تتصاعَد. فقط حلفاء إدارة ترامب يشعرون بالاطمئنان الى تطوّر السياسات الأميركيّة الاستراتيجيّة.