قد تكون مفارقة أن يعلن في السعودية عن اعتقالات طالت 11 أميرا قيل إنهم تجمهروا احتجاجا على تدابير طالت امتيازاتهم في نفس الوقت الذي تندلع فيه احتجاجات مثيرة للجدل في إيران من قبل شرائح اجتماعية عريضة يفترض أنها تدفع ثمن سياسات الحكومة ونظام الولي الفقيه في البلاد.
المفارقة تكمن في حقيقة التحوّلات الحاصلة في البلدين، وفي طبيعة ردود الفعل في هذا الشأن كما في هوية المعترضين وسبل اعتراضهم. والحال أن السعودية تتعرض لثورة من قمة الهرم على تجربة وسمت طبيعة البلاد مند حوالي أربعة عقود.
وما يطلق عليه بعصر الصحوة في المملكة فرض قواعد ثقافية واجتماعية خيّل للعالم أنها أصل في طبيعة السعودية والسعوديين، فيما ترعرع جيل كامل على التأقلم مع ثنائية عيش تجعله متبنيا لسلوك محافظ متشدد في الداخل، ومتبنيا في الوقت عينه لسلوك متطبّع مع عاديات العيش العصري في الخارج. ووفق هذا الواقع رانت “الصحوة” على يوميات الفرد التي لم تكن لتصمد لولا رعاية الحاكم والدفاع عنها وصونها من قبل النظام السياسي.
بالمقابل فُرض منطق “الثورة” على المجتمع في إيران. ولأن للثورة أعداء وفق أي عقيدة ثورية، كان لا بد لثورة الجمهورية الإسلامية أن تثبت أقدامها مستندة على موسم إعدامات لـ”المفسدين في الأرض”. كان لا بد أيضا من “حرس” يدفع الأخطار عن المتربصين بمدرسة روح الله الخميني في الحكم.
إذا ما كانت الولادة القيصرية السعودية تتم حتى الآن دون خسائر كبرى دراماتيكية تصيب العامة، فإن تلك الولادة في إيران مكتوب لها أن تأخذ وقتا طويلا عسيرا
وكان لا بد من “صحوة” بالنسخة الإيرانية تفرض نظام ولاية الفقيه العقائدية الجديدة على الفقه الشيعي الإثني عشري، بما يربط السلطة نهائيا في البلاد بسلطة دينية تنهل قوتها من موقع نائب المهدي المنتظر “حتى ظهوره في آخر الزمان”.
وما بين الصحوتين، في إيران والسعودية، رفع الحاكم في الرياض وطهران أسوارا سميكة للدفاع عن البلاد. وكلما استعر العداء بين البلدين في العقائد والثقافة والمذاهب وجوانب الأمن والاقتصاد، ازدادت حاجة النظامين للصحوات ترياقا يشدّ من عصب المجتمعين، وأدواتِ فقه وتمذهب يمتد داخل مجتمعات المنطقة الأخرى.
فإذا ما تطلبت أبجديات البقاء في نظام طهران ديمومة لنهج التمذهب واستمرارا في الترويج للتشيّع قاعدة لصلابة ولاية الفقيه، فإن ذلك البقاء نفسه بالنسبة للنظام السياسي في السعودية احتاج إلى الخروج من عقلية “الصحوة” وشروطها والتجرؤ على ولوج فضاءات جديدة، مجهولة العواقب.
بدا جليّا في العقود الأخيرة أن مسألة تحديث المجتمع السعودي والإفراج عن ديناميات تطوره لا يردعها الزعم بعدم جهوزية المجتمع، بل أن قرارا سياسيا واعيا كان وراء عدم فتح أبواب ذلك التحديث.
استفاد أصحاب “الصحوة” وأصحاب الحكم من تبادل المنافع والامتيازات بحيث تشد الصحوة الناس نحو ما يُزعم أنه من أصول الدين وقواعد العيش المنتمي إلى تاريخ القديم، فيما يؤجل الحكم مقاربة استحقاقات ترتبط بإدارة البلد وإدارة الناس وتطبيع البلاد مع واقعها الحقيقي، لا المتخيل، في عالم هذه الأيام.
وما التحوّل الجاري حاليا في المملكة إلا مباشرة ولو متأخرة بما لم يجرؤ ساسة الأمس على انتهاجه، واعترافا متأخرا بأن للحاكم المسؤولية الأكبر في إعادة تموضع تاريخ السعودية على سكة تعيده إلى مسارب التطور الطبيعي وتخرجه من حالة الاستثناء المصطنع.
وما هو مصطنع في إيران بدأ منذ أن بات الدين يحكم البلاد، ومنذ أن بات “إكليروس” الجمهورية يرسمون راهن الناس ويقررون مستقبلهم. والمصطنع في إيران أن يصادر مجتمع الملالي ثقافة مجتمع متعدد غزير الثقافات ينهل وجوده من حضارة لها باع عتيق في بطون التاريخ.
والمصطنع في إيران، كما المصطنع في حياة الشعوب التي دار مصيرها حول عقيدة السوفييت يوما في موسكو، يكمن في فرض هندسة على قواعد العيش وشروط البقاء تستدرج نصوصا عتيقة تم تشويهها بما يتلاءم مع مصالح الحكام المترجلين بارتجال كامل لاحتلال مساحة ستكون مؤقتة في تاريخ إيران.
يُخرج الحاكم في الرياض البلاد من زمن إلى زمن. يحتاج الأمر إلى ولادة جديدة، ولادة غير طبيعية، ولادة قيصرية تعبّر عن نفسها بظواهر وأساليب ومداخل لم تخطر على بال عتاة المستشرفين. قد يكون مبكرا تقييم الحدث الذي تعيشه البلاد باندهاش وتأمل صامت. يجري الحاكم معالجة مباشرة لأورام خيّل أنها من أصول الحكم وطبيعته الوجودية.
استفاد أصحاب “الصحوة” وأصحاب الحكم من تبادل المنافع والامتيازات بحيث تشد الصحوة الناس نحو ما يُزعم أنه من أصول الدين وقواعد العيش المنتمي إلى تاريخ القديم
ينال التحديث من العائلة الحاكمة وكبار رموز البلاد في السياسة والمال والاقتصاد. وما تجمهر بعض الأمراء إلا تعبير عن جدية وبنيوية مدرسة الحكم الراهنة، بحيث أن العلاج يستهدف طبقة تعيش فوق العامة، وبحيث أن العلاج نفسه ينبه هؤلاء العامة ويوقظهم من ثبات جعلهم يعتبرون أن فوقية تلك الطبقة وطابعها الاستثنائي هي من قواعد الدنيا وعادياتها في السعودية.
تحدث ولي عهد السعودية عن عامل الوقت. تأخر السلف عن الاستثمار في تصويب دفة السياسة والحكم ولا وقت لدى حكم هذه الأيام لتمييع ما تتطلبه المرحلة من حزم لمواجهة واقع السعودية الجديد. لا يمكن هذه الأيام الحديث عن “طفرة” نفطية.
باتت حقائق المال والثروة والاقتصاد تفرض نفسها في حياة السعوديين. لم تعد دولة الرفاه قوية لرعاية عيش الناس وعلى الناس أن يعوا أمر ذلك ويقبلوا لأول مرة في تاريخهم أن يعيشوا في الأرض كما يعيش مواطنو العالم. في هذا ما يفسر دخول مفردات الضرائب والقوة الشرائية وكلف الاستهلاك وشراء خدمات البنى التحتية وتوطين الوظائف والتكفل بالأمن الذاتي داخل قاموس المواطن.
وللوقت عامله في إيران أيضا. الحاكم هناك يحاول نفخ الوقت لعله يتمدد فيتيح له إبقاء هيمنته على قرار البلد وثروته. والناس هناك بالمقابل تريد للزمن أن يتوقف، زمن الخميني وخامنئي والحرس والمحافظين والمعتدلين وكل القبائل المستحدثة لحكم الجمهورية الإسلامية.
الناس تروم إخراج البلد من بلادة وتقادم تلك الثورة التي تقبع فوق رؤوسهم منذ حوالي أربعين عاما. وإذا ما كانت الولادة القيصرية السعودية تتم حتى الآن دون خسائر كبرى دراماتيكية تصيب العامة، فإن تلك الولادة في إيران مكتوب لها أن تأخذ وقتا طويلا عسيرا، قد يمر بمراحل دراماتيكية طويلة، تفرض على العامة، خصوصا، دفع ضريبة دموية موجعة.
سيكون مفيدا تأمل التحولات في السعودية وإيران. يسعى العالم برمّته لفهم ما يجري في البلدين لما لتلك التحوّلات من تأثير مباشر، ليس فقط على المشهد الإقليمي المتوهج برمته، بل على النظام الدولي من شرقه إلى غربه.
تموضع العالم خلال عقود أربعة على واقع اعتقد أنه ثابت ونهائي في طبيعة السعودية كما في طبيعة إيران. يسعى هذا العالم إلى مراقبة ورش التغيير داخل البلدين دون كثير تدخل في أمر عجز عن توقعه، ذلك أنه، وربما لأول مرة في التاريخ، تجري التحولات في غفلة عن العواصم الكبرى، على الرغم من مزاعم طهران بتدخلات تآمر خارجي، فتتم صناعتها محليا، فيخرج عليها حفنة من الأمراء في السعودية وتدفع بها انتفاضة غامضة للعامة تتدحرج مفاعيلها على نحو مقلق في إيران.