الوقائع المتصلة بالاشتباك تؤشّر إلى أنّ «أزمة الرئيسين» تتوسّع، وأنّ الطرفين متأهّبان لخوض معركة سياسية توحي أجواؤهما بأنّها ستكون طويلة ومفتوحة على احتمالات تهدّد بالانعكاس على سائر الملفّات.
في وقتٍ ينوء البلد تحت ثقلِ وضعٍ حكومي شِبه مشلول وقاصِر على مواكبة الأولويات العالقة، والتي تتساقط من سلّمِ اهتمامات أهلِ السلطة كأحجار الدومينو واحداً تِلو الآخر، وتُغيَّب عن مجلس الوزراء، كما هو الحال في الجلسة المرتقبة الخميس المقبل في السراي الحكومي.
الأزمة تتصاعد، والوسطاء غائبون، أو مغيَّبون، لعدم امتلاكهم عصاً سحرية تبني تسوية، ولو على الطريقة التقليدية التي تُتَّبع بين السياسيين على قاعدة «أنا أتراجع خطوة وأنت تتراجع خطوة، ونلتقي في منتصف الطريق»، حتى الأصدقاء المشتركون للطرفين، وكذلك حلفاؤهما الأقربون، باتوا ينعون أيَّ إمكانية لردمِ الفجوة الواسعة بين عون وبري، وهذا حال حليفِ الخصمين، أي «حزب الله»، الذي يبدو أنّ مسعاه غير المعلن فشلَ في بناء مساحة مشتركة بين حليفيه، ولذلك قرّر أن ينأى بنفسه عن هذه الأزمة وعدمَ مقاربتها علناً، وإنْ كان حسم موقفه بتأييد موقف بري.
ويبقى التعويل على مخرجٍ ما يمكن أن يقدّمه رئيس الحكومة سعد الحريري، الذي تؤكّد الأجواء المحيطة به أنّه بصَدد البحث عنه. لكن حتى الآن تبدو طريق الحريري مسدودة، وليس في اليد أيّ شيء ملموس، عِلماً أنّ الخطاب الناري المتبادل بين عون والحريري لا يساعد في إيجاد هذا المخرج.
وإذا كان الخلاف بين الرئاستين قد نام في أحضان عطلة الأعياد، إلّا أنّ البلد استفاق أمس على ارتداء عون وبري قفّازات الملاكمة على حلبةِ المرسوم، وتبادل لغة سياسية عالية النبرة، ألقت من جهة المسؤولية في اتّجاه رئيس المجلس واتّهامه بعرقلةٍ غير مفهومة وغير مبرَّرة لمرسوم لا لبسَ بقانونيته وشرعيته، مع إبداء الاستعداد للاحتكام للقضاء، أي لشورى الدولة، كما حمّلت من جهة ثانية المسؤولية لرئيس الجمهورية لإصراره على موقفه الذي أعلنَه من بكركي، مع التأكيد على الدستور ومرجعية مجلس النواب لتفسير القوانين، والتشديد على موقف بري القائل: هناك أصول يجب أن تُتبع، وخارج هذه الأصول لن يمشي شيء، هذه المسألة تتصل بصلبِ الدستور والقانون والصلاحيات، وليست مسألةً عقارية. هناك مَن يقرأ الطائف على طريق «ما لهم لهم وما لغيرهم لهم»، هذا المنطق ما بيمشي».
عون
وكان المكتب الإعلامي لرئاسة الجمهورية قد أشار في بيان إلى أنّ «الجدل حول المرسوم أخَذ في أحيانٍ كثيرة منحى مغايراً للأصول ولِما يَخدم المصلحة الوطنية»، ودعا إلى الاحتكام إلى القضاء مؤكّداً موافقة رئيس الجمهورية على الرأي الذي تُصدره الجهات القضائية المختصة في شأن المرسوم.
وفسّرَت مراجع معنية البيان «بأنّه جاء إزاءَ تعدّدِ الروايات حول موقف عون من المرسوم وجنوح البعض الى تفسيرات خاطئة دفعَته إلى التأكيد على موقفه الذي يشكّل السقفَ النهائي للحلّ، ومن يرغب بالحصول على تفسيرٍ مغاير ما عليه سوى اللجوء إلى القضاء، مع التأكيد أنّ موقف عون يشكّل السقفَ النهائي لأيّ حلّ». واعتبرت «أنّ ردَّ بري لم يأتِ بجديد».
وبحسب زوّارِ بعبدا، فإنّ رئيس الجمهورية «سعى من خلال البيان لأن يضعَ حدّاً للمزايدات والسجالات ولنزعِ الصبغة السياسية عن الموضوع ووضعِه في سياقه الطبيعي، أي الدستوري والقانوني والعسكري».
برّي
واعتبَر المكتب الإعلامي لرئاسة مجلس النواب في بيان «أنّ ما حصل مخالفةٌ صارخة لقاعدة دستورية تسمّى «مداورة الأصول» بالالتفاف على اختصاص سلطة دستورية ومواد بمنتهى الصراحة والوضوح في الدستور». ودعا رئاسة الجمهورية الى تصحيح الخطأ إذا لم يكن بالإمكان العودة عنه».
وقال قريبون من بري لـ«الجمهورية» إنه «ما زال يعتبر أنّ كرة المعالجة في ملعب رئيس الجمهورية، وأنّ بري الى جانب اعتراضِه على تجاوزِ توقيع وزير المالية كان معترضاً ايضاً على اختلال التوازن الطائفي في المرسوم، إلّا أنّه أبدى اخيراً استعداده لتجاوزِ الأمر بغية تسهيلِ الحلّ، بحيث تنازَل 50 % من اعتراضه من خلال موافقتِه على منحِ الأقدمية لضبّاط دورة 94 وفق توزيعهم المعتمد، والمطلوب في المقابل أن يتنازل عون 50% أيضاً عبر موافقته على إضافة توقيع وزير المال إلى المرسوم. وفي هذه الحالة يلتقي الجانبان في منتصف الطريق، إلّا أنّ الاجواء الرئاسية تؤشّر الى أنّ عون لا يزال يرفض هذه التسوية، رغم المداخلات التي جرت معه من قبَل الوسطاء، وكذلك من قبَل الحريري و»حزب الله».
«القوات»
مِن جهة ثانية، ما زال الوضع السياسي يَشهد اهتزازات في العلاقات بين القوى السياسية، ربطاً بالتطورات التي ظهرت خلال أزمة استقالة الحريري.
وقالت مصادر «القوات اللبنانية» لـ«الجمهورية» إنّ «انفتاحها على أيّ فريق سياسي يندرج في سياق رؤيتها الوطنية لتوسيع مساحة التأثير على المستوى الوطني في سياق تزخيمِ مشروع الدولة وتدعيمه وتحصينه، ويُخطئ من يفسِّر انفتاحَها من منطلق الخروج من حصارٍ أو أزمة، لأنّها لا تعتبر نفسَها مأزومة إطلاقاً، بل في الموقعِ المنسجمةِ فيه مع قناعاتها وأفكارها وتقاطعِها مع الرأي العام الذي يرى في التموضع والخطاب القوّاتي ما يعكس تطلعاتها وآمالها، وبالتالي قربُها أو ابتعادها عن أيّ طرف لا علاقة له بحسابات صغيرة، إنّما يتصل بالخط الوطني العريض».
ورأت «أنّ تصوير المواجهة السياسية في لبنان بكونها بين موالاة ومعارضة لا تعكس حقيقة الواقع، ولا حقيقة الصراع منذ العام 2005 إلى اليوم والقائم بين من يريد دولةً فعلية سيّدة على أرضها وممسكة بقرارها الداخلي والخارجي، وبين من يريد إبقاءَ لبنان ساحةً والدولة معلقةً وشكلية وصورية، فيما هذا البعض الذي يصوِّر الأمورَ على هذا النحو كان مشاركاً في معظم الحكومات منذ انتفاضة الاستقلال، وبالتالي كيف يُسقط مقاربته الحالية على وضعيته السابقة، أم أنّه يعتبر أنّ مجرّد وجوده خارج السلطة وعن طريق الصدفة يَسمح له بتحويل معركته بين سلطة ومعارضة؟ وهل التحالف مع «حزب البعث» مثلاً يصبح مشروعاً لمجرّد كونِه خارج السلطة»؟
وأسفَت المصادر «لمحاولة البعض تحريفَ الأمور وتزويرها وتصويرها على غير حقيقتها وكأنّ هناك من يضع شروطاً على «القوات» للتحالف معها من قبيل خروجها من الحكومة، علماً أنّ القاصي يَعلم كما الداني أنّ أحداً لا يضع شروطاً على «القوات» التي لا تستجدي التحالفَ مع أيّ كان، بل مصطلح الاستجداء غيرُ موجود في قاموسها أساساً، وتضع أيَّ تقاربٍ مع أيّ طرف في خانةِ المصلحة الوطنية العليا.»
وأسفَت المصادر «لمحاولةِ البعض ادّعاءَ انتصاراتٍ في غير محلّها، حيث إنّ موقف «القوات» داخل الحكومة والمتمسّك باعتماد الآليات القانونية وفي طليعتها إدارةُ المناقصات، ودعمُ أكثرِ مِن فريق داخل الحكومة لوجهة نظر «القوات» أدّى إلى ما أدّى إليه».
واستغربت «تحريفَ الوقائع بالكلام عن أنّ المقصود بـ»بقّ البحصة» ليس المعارضة المعروف تموضُعها وتقول كلامَها علناً، عِلماً أنّ الأوساط القريبة من الرئيس الحريري لم تسَمِّ سوى بعض الأسماء المعارضة، على رغم موقفِ «القوات» المعروف من كلّ هذه المسألة والمقاربة».
«الكتائب»
إلى ذلك، رفع حزب الكتائب من وتيرة اعتراضه على الأداء الحكومي، وأوضَح مصدر كتائبي مسؤول لـ«الجمهورية» أنّ موقف الحزب المعارض للحكومة «ينطلق في الأساس من سبب سيادي - دستوري له علاقة بتخلّي الحكومة عن واجباتها ومسؤولياتها وصلاحياتها الدستورية في رسم السياسات الخارجية والدفاعية والأمنية ووضعِها موضع التنفيذ.
ومن سببٍ إداريّ - خدماتي - معيشي على علاقة بفشلِ الحكومة في تأمين الحدّ الأدنى المطلوب من الخدمات للمواطن وغرق بعضِ مكوّناتها في صفقات تفوح منها رائحة الفساد وتحويل الإدارة ملجأ للمحاسيب والأزلام بالإضافة إلى السياسات الضرائبية والاقتصادية والاجتماعية الفاشلة التي تهدّد اللبنانيين بمزيد من الفقر وبشلّ دورةِ الحياة الإنتاجية».
وتساءَل المصدر: «كيف لا نعارض الحكومة وننتقدها ونحن نُعاين يومياً سياساتها التي أدّت الى ما نحن عليه اليوم من أزمات النفايات والكهرباء والضرائب والغلاء وارتفاع الأقساط المدرسية والإضرابات المطلبية والتضييق على الحريات الإعلامية والسياسية والمحاولات المتكرّرة لتسييس القضاء ووضعِه في مواجهة الناشطين السياسيين والمعارضين»؟
وقال: «ليس الغريب أن تعارض الكتائب الأداء الحكومي ولكن الغريب أن تسكت عنه، خصوصاً في ظلّ الكيديات المتبادلة بين أركان السلطة التي تتسبّب بشلِّ عملِ المؤسسات وباعتماد صفقاتِ التسوية على قاعدة المحاصصات وعلى حساب الدستور والقوانين».
وخَتم: «حكومةٌ تتخلّى عن واجباتها السيادية وتعطي الأولوية لمصالح مكوّناتها وصفقاتهم الفئوية على حساب الشعب اللبناني وحقّه في حياة كريمة يجب أن تواجَه بمعارضة شرسة بصناديق الاقتراع لتحقيق التغيير الذي يَحلم به الشعب اللبناني».