يمكن المرء أن يُركب مشهداً شديد الغرابة عن واقع العراق في ضوء اقتراب استحقاق الانتخابات النيابية فيه، وأن لا يخلو هذا المشهد من عناصر واقعية تجعل منه صورة حقيقية عما يتمّ في هذا البلد. فالـ "حشد الشعبي" ينوي خوض الانتخابات النيابية. ميليشيات مسلحة ممولة من الحكومة تشكلت تلبية لنداء مرجعية دينية ومسيطر على قرارها من قبل دولة جارة تنوي خوض الانتخابات النيابية!
الأرجح أن يكون لهذه الميليشيات مقاعد في المجلس النيابي العتيد. ستكون ممثلة بصفتها ميليشيات مسلحة في أعلى هيئة تشريعية في البلاد! شخصيات مثل هادي العامري وقيس الخزعلي وغيرهما من القادة الميدانيين لهذه الجماعة ستتولى التشريع، وهذا التشريع من المرجح أن يشمل تشريع حملها السلاح من خارج المنظومة المسلحة الرسمية. وهذا ما سيتيح لميليشيات مذهبية موازية حمل السلاح أيضاً، وإن كان سلاحاً أقل تطوراً ومن جيل أقدم من أجيال الأسلحة التي في أيدي عناصر الحشد. وهذا كله سيشمله تشريع المجلس المنتخب بموجب قانون انتخابات هو الأحدث بين قوانين انتخابات المنطقة، وستراقب الانتخابات هيئات رقابة دولية وسيكون مستوى التزوير فيها أقل من مستواه في كثير من الدول المجاورة.
ستحجز الميليشيات المسلحة مكاناً رسمياً وشرعياً لها في الحياة السياسية العراقية. السلاح غير الشرعي سيكون ممثلاً في مجلس نيابي شرعي. وربما كان لهذا السلاح تمثيل مباشر في الحكومة، كأن يتولى العامري مثلاً وزارة الزراعة، أو قيس الخزعلي وزارة الثقافة، والرجلان قد ينجحان في مهمتهما أكثر من وزراء الاختصاص، وهذا ما سيُعزز فكرة أن السيادة يجب أن لا تحتكرها مؤسسات الدولة، وأنه من الحكمة أن لا نحكم على الميليشيات بصفتها خروجاً عن منطق الدولة.
ليس في هذا الكلام مبالغة، ذاك أن نقاشاً موازياً يتمّ في العراق اليوم. فالـ "حشد الشعبي" أنجز مهمة هزم "داعش"، صحيح أنه أقدم على المهمة بصفتها امتداداً لحرب أهلية، لكنه أنجزها بمساعدة الجيش العراقي والجيش الأميركي وبإدارة إيرانية مباشرة كشفتها الزيارات المتكررة لقائد فيلق القدس قاسم سليماني إلى الجبهات. لكن إنجازه المهمة لا يعني أن المهمة انتهت. النقاش في العراق اليوم هو حول هذه النقطة تحديداً. القوى التي تقول إن حل الحشد ووقف تمويله الرسمي قرار خاطىء، قوية ومؤثرة، وقرار مشاركة الحشد في الانتخابات هو جزء من هذا النقاش. علينا أن نستعيد هنا كيف أن مهمة سلاح المقاومة في لبنان لم تنته عند حدود انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان. هذا السلاح تحول إلى جزء من فكرة لبنان عن نفسه وعن دوره. كل البيانات الحكومية تؤكد ضرورته، واللبنانيون بهيئاتهم التمثيلية الرسمية مختلفون على كل شيء بوتيرة أعلى من اختلافهم على وظيفة هذا السلاح. العراق سائر نحو هذه المعادلة.
سلاح الحشد الشعبي سيكون مضمون الحياة العامة في السنوات العشر المقبلة على الأقل. سيدخل إلى المجلس النيابي على نحو ما دخل سلاح المقاومة إلى المجلس الشقيق في لبنان، والتمويل الإيراني لكلا السلاحين سيجد تصاريف وطنية بديلة. "رصيف المقاومة" في مرفأ بيروت سيكون فكرة أخرى يصدّرها لبنان إلى شقيقه العراق، تتولى تخفيف الأعباء عن الراعي الإقليمي لهذه التجربة، وتزيح عن كاهله هموماً مالية بدأت تقضّ مضاجعه في بلده. ربما كانت عائدات الحجاج إلى مدن العتبات في العراق فكرة صائبة وموازية للتمويل.
ويبدو أن رئيس الحكومة حيدر العبادي أعطى وعوداً دولية بحل الحشد ما أن تُنجز المهمة. لا بأس عليه. التخفّف من الوعود سيحفظ رأسه. سبق أن فعلها رئيس الحكومة اللبنانية الراحل رفيق الحريري، وهو اليوم في ديار الحق لأنه لم يُدرك أن للوفاء بالوعود أثماناً، وأن إطفاء الحروب الأهلية لم يحن بعد. الأرجح أن العبادي حفظ الدرس، وحفظ أيضاً أن الغرب لن يحفظ رأسه وأن البحث عن عمق عربي غير إيراني للعراق لن يجد استجابة، باستثناء المشاركة بجنازة صاحب الوهم وضحيته الوشيكة.