فبغض النظر عن مكافأة ال 25 مليون دولار التي وضعتها واشنطن للذين يدلون بمعلومات تساعد على تحديد موقعه أو قتله، استطاع البغدادي تفادي الموت أو إلقاء القبض عليه بشكل متكرر. وتمكّن من فعل ذلك حتى مع تركيز الجيوش الأميركية والروسية والسورية والعراقية على قتله.
يشير شاجكوفسي وسبيكارد إلى أنّه حين كانا في بغداد كباحثين من "المركز الدولي لدراسة العنف المتطرف" يجريان مقابلات مع كوادر من داعش استطاعت القوى الأمنية جلبهم للعدالة، سأل أحد المحققين في السجون العراقية الباحثين: "مع كل عظمة دولتكم العسكرية، لماذا لا تستطيع الولايات المتحدة العثور على البغدادي؟". عقّبا قائلين: "سؤال وجيه".
أفضل معلومات مخابراتية
نطق مرّتين وقتل مراراً... أين البغدادي؟
شرح الباحثان أنّ بإمكان المخابرات الحصول على أفضل المعلومات من مصادر موجودة على الأرض، وهذا ما ينقص الأميركيّين. لقد وجدت أجهزة المخابرات الغربية أنه يكاد يكون مستحيلاً دسّ جواسيس داخل التنظيم الإرهابي. لقد أعلنت مصادر أردنية للباحثين أنّها تمكنت من فعل هذا، بينما قال مسؤولون من كوسوفو لهما أنهم حاولوا اختراق التنظيم لكنّهم فشلوا إذ تم اكتشاف أحد الجواسيس وقتله. وكتبا أيضاً عن احتمال أن يكون الموساد الإسرائيلي وروسيا قد نجحا في الاختراق، لكن من غير الواضح ما إذا كانت المعلومات القادمة من جواسيسهما محدّثة. أمّا الواضح بالنسبة إلى التقرير فهو عدم وجود حكومة أو مكتب مخابراتي يمتلك معلومات كافية لقتل البغدادي، وهذا ما يحتاج إلى عناصر موجودة على الأرض.
ليس مجموعة من الهواة المتطرفين
خلال مقابلات مع 66 منشقاً أو سجيناً من داعش علم "المركز الدولي لدراسة العنف المتطرف" أنّ كوادر التنظيم مراقبون جداً. أجهزة الخلوي تؤخذ غالباً منهم، أمّا من يسمح لهم بالاحتفاظ بها فيتمّ التدقيق في رسائلهم ومحادثاتهم. مصير من ينقلب على التنظيم هو غالباً القتل حتى ولو لم تكن الأدلة قوية. إنّ "أمني" الذراع المخابراتية لداعش كانت تفتش عن أعدائها داخل التنظيم وتراقب الاتصالات وتدقق في المنضمّين الجدد إلى التنظيم. ويضيف التقرير أنّ داعش ليس عبارة فقط عن مجموعة من المتطوعين المتطرفين إذ إنّ جوهر هيكليته تمّ تشكيله من ضباط سابقين في جيش ومخابرات صدام حسين. وتحالف هؤلاء في نهاية المطاف مع مجموعة متوحشة من الجهاديين التي تشكلت حول أبي مصعب الزرقاوي الذي اصبح لاحقاً زعيم تنظيم القاعدة في العراق. إنّ البحث عن الزرقاوي من سنة 2003 حتى سنة 2006 حين تمكّن الأميركيون من قتله يعطي فكرة عمّا يجري اليوم في تعقب البغدادي.
معلومات كثيرة كالجبال
كانت ندى باكوس واحدة من "ضباط التعقب" التابعين للسي آي أي ومهمتهم استهداف الزرقاوي. تقول باكوس في مقابلة مع قناة "هيستوري" الوثائقية إنّ ضابط الاستهداف مهمته تحليل المعلومة لجعلها عملية أكان لصالح الجيش أم لصالح الوكالة نفسها إذا كانت قادرة على تنفيذ المهمة. وتقول إنّ المعلومات كثيرة وتتراكم كالجبال، لكنّ كل شخص يترك أثراً أو بصمة أو نوعاً من النمط الذي يمكن إيجاده. فكلّ شخص يسعى لتأمين بعض الحاجات مثل المأكل والمأوى والتواصل مع أشخاص آخرين. هذه الغرائز الأساسية هي تترك نمطاً كما تشرح باكوس التي تضيف أنّ ضابط التعقب يبحث عن نقاط الضعف في الأشخاص المستضعفين، ومن هنا تتم محاولة رسم صورة حول المكان الذي يتجه إليه الشخص المطارَد وحول استراتيجيته ونواياه.
قنبلتان بزنة 225 كيلوغرام
كان الزرقاوي "مهووساً شريراً" بحسب تعبير باكوس، إذ كان يحاول لفت أنظار العالم عبر قطع الرؤوس. وفي عملية التعقب، كان المطاردون يحاولون كشف الشبكة التي شعر الزرقاوي بالأمان داخلها. في نهاية المطاف علمت الوحدات الخاصة أنّ الإرهابي كان سيلتقي بإمام يعتبره مستشاره الروحي في بيت خارج مدينة بعقوبة سنة 2006. تبعت طائرات بلا طيار سيارة الإمام، وحين دخل الأخير إلى المبنى، تمّ تمت تسويته بالأرض من قبل مقاتلة أف-16 ألقت قنبلتين بزنة 225 كيلوغرام تقريباً. لكن ما يجب تذكره عند الحديث عن الزرقاوي والبغدادي أنّ منظمة الأول عبارة عن شبكة من العقد ومراكز القوة، ولم تكن شديدة الهرمية بحسب باكوس. الأمر الذي عنى أنّه بعد مقتل الزرقاوي استطاعت مجموعته إعادة تنظيم نفسها في سوريا تحت قيادة أبي يكر البغدادي.
ماذا عن "الدرونز" والأقمار الاصطناعيّة؟
يشير تقرير الدايلي بيست إلى أنّ المقابلات مع كوادر داعش أظهرت أنّه حتى بالنسبة إلى المسؤولين الكبار في التنظيم، لم يستطع هؤلاء رؤية البغدادي شخصياً. لقد تمكّن ضباط المخابرات المحيطون به من إبقاء موقعه وتحرّكاته سراً دفيناً. وليس من المفاجئ أن يكون داعش قد تعلم من تنظيم القاعدة في العراق كيفية حماية زعيمه. لقد تعلم مسؤولو المخابرات لدى صدما حسين كيفية تفادي عمليات قتل أو محاولة قتل طاولت قادة إرهابيين شيشانيين مثل باساييف والخطاب على يد الروس أو أبي مصعب الزرقاوي وأسامة بن لادن على يد الولايات المتحدة. وتم التحضير للشبكة الأمنية القوية منذ بدايات تأسيس التنظيم الإرهابي. من هنا، إنّ العثور على البغدادي ليس بسيطاً كالاعتماد على القوة التقنية للجيش الأميركي كما قال مفتش السجون. فالمراقبة على مدار الساعة التي تتم بواسطة الأقمار الاصطناعية والدرونز لا تعطي معلومات كثيرة عن أمثال البغدادي الذين يمكن أن يختبئوا في دهاليز أنفاق الموصل أو غيرها. حتى حين تنهار هذه الأخيرة تحت القصف يمكن أن يتنكر بهيئة امرأة مرتدياً النقاب، كما كانت الحال مع كوادر من داعش. وتعلم البغدادي على الأرجح أنه لا يمكن التواصل عبر الهواتف بل عبر وسائل أكثر أماناً بشكل نسبياً كسعاة البريد.
تسع حيوات للبغدادي.. ما الذي يميّزه عن صدام؟
بعد الاجتياح الأميركي للعراق، لم يتم العثور على صدام حسين في الحفرة التي كان مختبئاً فيها بفضل مكافأة ال 25 مليون دولار. لقد استغرق الأمر عدة أشهر قبل أن تتمكّن واشنطن من القبض عليه بعد إلقاء القبض على حارسه الشخصي السابق الذي أدلى بالمعلومات خلال التحقيق. خلال فترة القبض عليه، أمكن لصدام أن يكون مفتقداً لشبكة أمنية متخصصة قد يكون البغدادي لا يزال معتمداً عليها اليوم مع اندماج 20 ألفاً من كوادر داعش في المجتمع كما يقول مسؤولون عراقيون. وشبّه التقرير البغدادي بالهر الذي يتمتع بتسع حيوات كما يقول المثل الشعبي، إذ أعلنت تقارير مقتله قبل أن يعاود البروز من جديد. في آب الماضي قال الجنرال ستيفن تاونسند قائد التحالف الدولي ضد داعش إنّه لا يتمتع بأدنى فكرة عن مكان وجود البغدادي: "يمكن أن يكون في أي مكان في العالم بحسب ما أعرف"، قبل أن يعود ويعبّر عن اعتقاده بأنّه في مكان ما بين العراق و سوريا في وادي الفرات الأوسط والتي تبلغ مساحتها حوالي 250 كيلومتراً مربعاً. وشدّد على أنه لا يمكن محاصرة المنطقة وتجويع البغدادي ومقاتليه كما يحصل في حي أو مدينة، مشيراً إلى وجود تعقيدات ميدانية أيضاً مع القوى المنافسة مثل الروس والجيش السوري. فالوقت الذي يمكن إمضاؤه في تعقب البغدادي يجري هدره في تفادي الصدامات بين واشنطن و موسكو في تلك المنطقة. وأعلن تاونسند أنّه حين يتم العثور عليه، "أعتقد أننا سنحاول قتله في البداية، من المحتمل ألا يساوي الأمر عناء المحاولة وإلقاء القبض عليه".
ليس الزعيم العملي للتنظيم
يشرح التقرير أنّ البغدادي قد يكون زعيم داعش الأوّل لكن من الناحية العملية هنالك شخصية قد تكون أبا محمد العدناني الذي يوصف بأنه اليد اليمنى للبغدادي إضافة إلى ترؤسه لشبكة "أمني". وعلى عكس البغدادي كان عدناني معروفاً باستراتيجيته الميدانية وحملته الدعائية والتخطيط للهجمات العالمية. تمكن التحالف من قتله بغارة جوية سنة 2016. وفي عهد الزرقاوي، يقال إنّ البغدادي انتقده لهجماته الوحشية ضد الشيعة. لكن حين تحوّل الأخير إلى زعيم لداعش أصبح تنظيمه أكثر وحشية. واستعبِدت الرهينة الأميركيّة كايلا مولر جنسياً مع فتيات أيزيديات أخريات لدى البغدادي. تقول رهينات أخريات إنّ البغدادي اغتصبها بلا رحمة قبل أن تقتل سنة 2014.
هل مصير البغدادي مهمّ بعد سقوط التنظيم؟
وقال عراقيّون سنّة للدايلي بيست إنّ البغدادي ما زال يبعث رسائل إلى أتباعه، مع احتمال كبير في أن يكون هؤلاء مستندين إلى الشائعات في ما يقولون. وأشارت مصادر مخابراتية أميركية إلى شبكة "سي أن أن" أنّها فشلت في اعتراض اتصالات لداعش تؤكد مقتل البغدادي أو تولّي آخرين منصب القيادة مكانه. وقال مسؤول في وزارة المخابرات العراقية للباحثين ردّاً على سؤال بشأن تعقّب البغدادي: "هل هذا يهمّ بعد الآن؟ داعش قد هُزم". "هذا مهمّ" يؤكد التقرير.
إنّ بقاء البغدادي على قيد الحياة يجعل معتنقي فكر داعش يؤمنون بإمكانية إعادة إحياء الخلافة المزعومة. يجب ألا يتم تدمير داعش بالكامل وسلب أي شرعية من حلمهم المبني على العنف والوحشية فحسب، بل يجب اصطياد رجل ال 25 مليون دولار، بطريقة أو بأخرى، كي يراه مؤيدوه وضحاياه يدفع ثمن الجرائم ضدّ الإنسانيّة التي ارتُكبت تحت رايته.
ترجمة : جورج عيسى _ النهار