بعد مرور أكثر من 10 سنوات على الواقعة، كشف محلل عسكري وخبير في العلاقات بالشرق الأوسط، تفاصيل الضربة الجوية التي نفذتها إسرائيل في سوريا، ضد المفاعل النووي الذي ساعدت فيه بيونغ يانغ دمشق في إنشائه مطلع عام 2000.
وقال مارسيل سير، الخبير في السياسات الأمنية الإسرائيلة في مقال بمجلة ناشيونال انترست ، الأميركية الخميس 4 يناير/كانون الثاني 2018، إن العقيدة الإسرائيلية التي وضعها رئيس وزراء تل أبيب الراحل مناحم بيغن، تسنتد على "ممنوع منعاً باتاً وبأي حال من الأحوال أن تحصل دولة عدوة على سلاح نووي".
وبحسب الكاتب حتى يومنا، ظلت تل أبيب تحافظ على سياستها هذه وخصوصاً تجاه إيران بشكل رئيسي، فلعدة سنوات ظل المحللون والمراقبون العسكريون حول العالم يتكهنون هل تقصف إسرائيل المنشآت النووية الإيرانية.
ولكن السؤال هو هل باستطاعة القوات الجوية الإسرائيلية تنفيذ عملية كهذه؟ حتى هذا اليوم تمكنت قوات إسرائيل الجوية مرتين من تنفيذ ضربتين حاسمتين ضد برامج العدو النووية، ألا وهما في العراق عام 1981 وفي سوريا عام 2007.
قصة عملية "البستان"
ويضيف سير فمع نهاية عام 2006 رصدت الاستخبارات الإسرائيلية منشأة مريبة في منطقة نائية شمال شرقي سوريا على مقربة من نهر الفرات تبعد 30 كيلومتراً عن مدينة دير الزور؛ وكانت تلك المنشأة مغطاة بسقف ضخم حالَ دون وضوح الرؤية من الأعلى.
وبحسب الكاتب كان واضحاً أن السوريين يخفون شيئاً هناك، فارتابت الاستخبارات الإسرائيلية أن يكون الموقع لبرنامج نووي سري هناك.
وسرعان ما تأكد الشك على نحو غير متوقع من مصدر إيراني رفيع هو الجنرال علي رضا عسكري، الذي كان المستشار الأمني لرئيس إيران السابق محمد خاتمي ثم تولى منصب نائب وزير الدفاع لعدة سنوات، لكنه بعد انتخاب محمود أحمدي نجاد عام 2005 بات من المغضوب عليهم، فانشق وفر إلى الولايات المتحدة في فبراير/شباط 2007.
هناك باح عسكري بما لديه وقدم معلومات شديدة الأهمية، منها إدلائه بتفاصيل حول البرنامج السوري النووي الذي مولته إيران وبناه الكوريون الشماليون، حيث كانت المنشأة لمفاعل ذي مهدئ غرافيتي تحت اسم "الكبر" قادر حسب المفترض على إنتاج البلوتونيوم للأسلحة النووية، بحسب المقال.
وقدمت الولايات المتحدة تلك المعلومات لإسرائيل.
وتعود الاتصالات ما بين بشار الأسد وكوريا الشمالية إلى يونيو/حزيران من عام 2000 بشأن إنشاء مفاعل نووي؛ فالتعاون المسلح بين دمشق وبيونغ يانغ هو تقليد وثيق العرى، ذلك أن النظام الشيوعي المستبد في كوريا الشمالية سبق له في الماضي أن ساعد سوريا على تطوير أسلحة كيميائية.
وفي عام 2002 وصلت طلائع المواد الأولية الكورية الشمالية إلى سوريا، يصحبها فريق من التقنيين والعلماء؛ باشرت أعمال البناء في تشييد الموقع، لكن التستر عليه وكتمان أمره استوجبا سرية تامة، وهو ما أمّنته السلطات جيداً جداً، فقد منع منعاً باتاً التواصل مع الخارج حول هذا الأمر، بحسب المجلة الأميركية.
بغية التأكد من التقارير المقلقة عمد الموساد الإسرائيلي إلى تفتيش غرفة إبراهيم عثمان، مدير هيئة الطاقة الذرية السورية، التي نزل فيها في فندق بفيينا في مارس/آذار 2007. عن إهمال، ترك عثمان جهاز حاسوبه المحمول (اللابتوب) في غرفته، فكان سهلاً على العملاء الإسرائيليين نسخ محتويات قرصه الصلب.
وبحسب سير المفاجأة التي فاقت التوقعات كانت في البيانات المنسوخة التي حصل عليها الموساد، فقد عثروا على عشرات الصور الملونة التي تظهر داخل البناء، ما قطع الشك باليقين وأكد أن السوريين يبنون مفاعلاً نووياً بمساعدة كوريا الشمالية، حيث ظهر في إحدى الصور تشون تشيبو، الخبير النووي الرائد والبارز في كوريا الشمالية.
واعتقد الموساد واقتنع أن الهدف الوحيد من وراء برنامج سوريا النووي هو تطوير الأسلحة النووية، وكذلك أظهرت الصور أن المفاعل لا تفصله سوى أشهر قلائل عن مرحلة الجاهزية للعمل؛ لكن في حال دخل المفاعل مرحلة العمل، سيكون من الصعب تنفيذ ضربة جوية بسبب المواد النووية وغبارها. لهذا كان لزاماً على إسرائيل أن تتحرك بسرعة.
كيف تمت العملية؟
بمجرد أن تأكدت تل أبيب من أن سوريا على وشك تنشيط مفاعل نووي، ناقشت إسرائيل الخطوات التالية مع واشنطن، فوافى عمير بيريتس وزير الدفاع الإسرائيلي نظيره الأميركي روبرت غيتس في الـ18 من إبريل/نيسان بالنتائج التي اكتشفها الموساد.
لكن الرئيس الأميركي آنذاك، جورج بوش، كان حذراً، فبعد الكارثة الإعلامية في العراق ومزاعم حيازة العراق لأسلحة دمار شامل لم يعثر لها على أثر، أرادت إدارة بوش أن تتلافى الوقوع في غلطة أخرى مهما كلفها الأمر، بحسب المقال.
لكن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية CIA تحققت من المعلومات التي عثرت عليها إسرائيل ووافقت إسرائيلَ في تأويلها لها، مع ذلك ظل الشك يساور بعض كبار المسؤولين في إدارة بوش خشية تصعيد جديد في منطقة الشرق الأوسط دون سيطرة، فحربا العراق وأفغانستان كانتا قد أثقلتا كاهل الولايات المتحدة بما يكفي.
ثم كان في يونيو/حزيران 2007 أن زار رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتها إيهود أولمرت البيت الأبيض، وهناك صارح الرئيسَ الأميركي بأن إسرائيل قد تمضي في سبيلها وتتخذ خطوة أحادية الجانب ضد المشروع النووي السوري في حال أحجمت الولايات المتحدة عن المشاركة في العملية، فلما ألمح بوش إلى أنه لن يقف دون إسرائيل وعمليتها الأحادية، هنا بدأ سلاح الجو الإسرائيلي يخطط لضربة جوية محدودة ضد المنشأة السورية.
أُرسِل جندي كوماندوز من مغاوير القوات الإسرائيلية الخاصة التابعة لوحدة في سلاح الجو تعد نخبة المغاوير، ألا وهي وحدة استطلاع هيئة الأركان العامة الإسرائيلية المعروفة باسم "ماتكال"، حيث نجح ذاك العنصر بالتسلل داخل سوريا وجمع المعلومات الاستخباراتية في موقع المنشأة النووية.
الضوء الأخضر
ويتابع الكاتب ثم في الـ5 من سبتمبر/أيلول وبعد أسابيع من جولات الجدل والمناقشات السياسية السرية في مجلس الأمن الإسرائيلي حصلت القوات الجوية الإسرائيلية على الضوء الأخضر لتنفيذ "عملية البستان"، وليلتها أقلعت 10 مقاتلات F-15 و F-16 من قاعدة رامات ديفيد الجوية الإسرائيلية.
في البداية حلقت الطائرات شمالاً على طول ساحل المتوسط، ثم فجأة انعطفت شرقاً على طول الحدود السورية التركية، وقامت بتشويش إلكتروني لأنظمة الدفاع الجوي السورية ودمرت محطة رادار، وبذلك نجحت بدخول المجال الجوي السوري.
ثم حوالي الساعة 12:45 فجراً أبلغ الطيارون عن تنفيذ مهمتهم بنجاح، وتم تدمير المفاعل النووي السوري حتى قبل أن يتسرب الخبر ويتناقله الإنترنت، وعادت الطائرات الإسرائيلية إلى قواعدها سالمة، بحسب المجلة الأميركية.
في اليوم التالي ذكرت الوكالة السورية الرسمية للأنباء خبراً مفاده أن مقاتلات جوية إسرائيلية اقتحمت المجال الجوي السوري، وبعدما رصدتها أنظمة الدفاع السورية ألقت المقاتلات بذخائرها وسط الصحراء ثم انكفأت راجعة دون أن تحدث أي أذى. في الواقع إن الدفاع الجوي السوري لم يطلق صاروخاً واحداً.
كانت تل أبيب قد أخذت بعين الاعتبار أن الصواريخ السورية موجهة على عدة مواقع حساسة داخل إسرائيل، ولهذا كان سلاح الجو الإسرائيلي قد خطط للعملية في أضيق الأُطر الاجتياحية لئلا يمنح الأسد مبرراً كافياً للرد.
بعد الضربة التزمت إسرائيل الصمت، ولحسن الحظ سار كل شيء حسب الخطة، فالأسد حفظ ماء وجهه بنفي وجود برنامج نووي أصلاً، متلافياً بذلك الرد بتوجيه هجوم مضاد. أما في تلك الأثناء فقط ظل العالم حائراً فترة بأمر ما حدث فعلاً ليلتها من سبتمبر/أيلول 2007، بحسب مقال سير.
بعدما نفذت مهمتها قامت وحدة شايطيت 13 ( وحدة كوماندوز بحرية التابعة للبحرية الإسرائيلية) -وهي نظيرة قوات نافي سيلز الأميركية- باغتيال العميد محمد سليمان في الأول من أغسطس/آب 2008 على يد قناص أطلق رصاصة من بندقيته بينما كان العميد على مائدة العشاء في فيلا مطلة على البحر؛ حيث كان العميد الآمر الناهي في برنامج سوريا النووي كما كان هو همزة الوصل مع الكوريين الشماليين.
عملية البستان كانت عملية ناجحة تماماً من وجهة نظر إسرائيل، فالعقيدة التي وضعها بيغن نفذت بحذافيرها وبالتزام تام، كما إنه حسبما آلت إليه الأمور لاحقاً يبدو أن الضربة الجوية الإسرائيلية قد خدمت الشرق الأوسط وربما العالم بأسره خدمة كبيرة، إذ لنا أن نتخيل كيف كانت الحرب السورية ستسير لو كان في حوزة الأسد سلاح نووي؛ خصوصاً أن الأسد أثبت أنه لا يتورع عن استعمال الأسلحة الكيميائية ضد شعبه. ولعل السيناريو الأسوأ كان لو وقع السلاح النووي أو المواد المشعة بأيدي داعش.
مسودة لإيران؟
ويقول سير "ما زالت إسرائيل تنتهج عقيدة بيغن، ولهذا فإن إيران تمثل التهديد الأكبر حالياً، والواقع أن إيران بتملكها لقدرات عسكرية نووية ستمثل خطراً جسيماً متعدد الزوايا والأبعاد".
فبداية، ثمة احتمال تنفيذ إيران لضربة اعتداء مباشرة. كذلك ثمة إمكانية وقوع أنظمة السلاح النووي بأيدي وكلاء إيران في المنطقة وأبرزهم حزب الله. لو نظرنا من وجهة نظر إقليمية لوجدنا أن قدرات طهران النووية قد تقود على الأرجح نحو سباق تسلح في الشرق الأوسط من شأنه زعزعة استقرار المنطقة بأسرها.
أما خطة العمل الشاملة المشتركة التي تم التوصل إليها بعد مفاوضات 2015 للحد من برنامج إيران النووي والسيطرة عليه، فلن تفلح إلا بتأخير الأمر مؤقتاً في أحسن الأحوال، ليس إلا.
ولكن عندما نفكر بتوجيه ضربة عسكرية لمنشآت نووية إيرانية، يجب على المرء أن يعي أن العملية العسكرية في سوريا كانت أسهل وأبسط بكثير من السيناريو الحاصل الآن في إيران، ففي سوريا لم يكن هناك سوى منشأة واحدة للتدمير، أما في إيران فثمة عدة منشآت تحرس كلاً منها دفاعات جوية مشددة، فضلاً عن تناثر مواقعها هنا وهناك في أرجاء البلاد، بحسب مقال سير.
كذلك ثمة منشآت ومواقع تحت الأرض، وستستلزم قنابل خاصة قادرة على اختراق الأرض؛ أضف إلى ذلك أيضاً أن المسافة الفاصلة بين إسرائيل وإيران تستوجب إعادة تزويد الطائرات بالوقود، وكذلك أن المنشآت النووية الإيرانية تعمل لتوها، وبذلك فإن تدميرها سيؤدي إلى تلوث خطير، وستكون هناك خطورة فادحة من وقوع أضرار جانبية.
ويختم الكاتب مقاله في نهاية المطاف سوف تواجه إسرائيل حتماً ضربات مضادة شديدة يوجهها لها حلفاء إيران في المنطقة، أي حزب الله. وخلاصة القول إن إسرائيل لو نفذت عملية عسكرية –ولو كانت ناجحة- فلن تفلح سوى بتأخير برنامج إيران النووي مجرد تأخير، ذلك لأن نوايا نظام طهران حتماً لن تتغير.