عندما جاهر الرئيس الإيراني حسن روحاني بأنه "من دون إيران لا يمكن القيام بأي خطوة مصيرية في العراق وسوريا وشمال أفريقيا والخليج الفارسي"، كان نظام ولاية الفقيه لا يزال في بداية نشوته بالانتصارات التي تحققت باندحار "داعش" من العراق وسوريا، والفعالية التي تزداد حضورًا لحزب الله في لبنان، والفشل السعودي في الحصول على مرتكز يعطي للرياض القدرة على استعادة دور المبادر، بعد تراجعها الصريح على مسرح الأحداث وما تلاقيه من وراء انغماسها في المواجهة المباشرة مع النفوذ الإيراني على حدودها الجنوبية، اليمن.
هذه "الانتصارات" ما كان لها أن تتحقق لولا تلكؤ الولايات المتحدة والسياسات الملتوية لرئيسها السابق باراك أوباما، بعد أن كانت سياسات سلفه جورج بوش الابن الرعناء سلمت بلاد الرافدين للهيمنة الإيرانية، وجعلت لطهران نفوذا صريحا في داخل أفغانستان، حتى ليبدو وكأن "مهمة" السياسة الأميركية في المنطقة لم تتحقق إلا في تمهيد الطريق لهذه الهيمنة، التي تعززت بخروج إيران من ساحات المعركة ضد داعش ذات قدرة على تشكيل الأحداث في الشرق الأوسط أكثر من أي وقت مضى.
... وإذ باتت إيران اليوم تملك تأثيرًا ونفوذا يفوقان ما لأي قوة إقليمية في المنطقة، فإن التظاهرات التي شهدتها شوارع المدن الإيرانية على مدى ما يزيد عن الأسبوع، في وجه سياسات الإفقار والفساد، وصرف الأموال على الخارج، جاءت لتطرح تحديا حقيقيًا في وجه هذا النفوذ، الذي يتحول يوما بعد آخر سببا لحرمان الشعوب الإيرانية من أدنى حقوقها في لقمة العيش والحياة. لقد صرخ المتظاهرون مطالبين بحقوقهم الحياتية، لكنهم أعلنوا رفضهم مغامرات النظام التوسعية في الخارج، داعين للانسحاب من سوريا ولبنان والعراق وغزة، وهي مغامرات سيكون من شأن مواصلتها أن يعرقل سبل حصول إيران على الفوائد التي ارتجتها من توقيعها الاتفاق النووي مع مجموعة الدول الست الكبرى في العالم.
الاتفاق الذي فتح الباب لعودة إيران إلى المجتمع الدولي، هو المحور الذي باتت السياسة الإيرانية مضطرة للدوران حوله. احترامه سيتيح لإيران الانفتاح على الاستثمار الأجنبي واستعادة أموالها المجمدة في الخارج، ما يساعد في تحقيق الوعود بالتنمية والمعالجة الجدية لأزمات معيشة الإيرانيين.
لقد انتهت هبّة الأيام السبعة للإيرانيين بعد أن لوحت سلطة القمع بقبضتها، وأطلقت تهديداتها علنا وبدأت تمارسها. لكن الضحايا الذين سقطوا في هذه الأيام، وصرخات الناس المعبِّرة عن رفض الاستمرار في الخضوع الأعمى لسلطة الولي الفقيه وقبضة "الحرس الثوري"، والفساد المتلطي وراء التغني بما يتحقق من انتصارات في الخارج، باتت واقعا يعني أن الاستقرار السياسي اهتز، كما اهتزت ثقة الشعب بحكامه.
لن يكون بالإمكان بناء توقعات وافية لما ستسفر عنه الهبة الشعبية من تغيّرات على مستوى الحكم في إيران، وسياسة الهيمنة في الخارج، قبل أن تتضح الوجهة التي سيسلكها الإصلاحيون، الذين عليهم اليوم أن يستعيدوا تجميع أنفسهم، والتقدم بشعاراتهم وبرامجهم الصريحة... والخروج من تحت عباءة رهبة سلطة الولي الفقيه وسطوة "الحرس الثوري".
المواجهة ستحصل إن عاجلا أم آجلا. وسيكون على الفريق الفائز أن يواجه ساعة الحقيقة، وهي أن انتصارات الخارج محدودة الصلاحية في معالجة مشاكل الداخل، وأن الاستمرار في سياسات التوسع ومد الهيمنة، ستزداد صعوبات اعتمادها إلى حد الاستحالة.
إقرأ أيضًا: النظام الإيراني أمام التحديات الصعبة
حتى الآن، نظام الملالي و"الحرس الثوري" لا يبدو أنه في وارد التراجع. لجوؤه إلى حشد تظاهرات التأييد سلاحا لقمع تظاهرات النقمة الشعبية، دليل على أنه لن يتراجع بسهولة. لكن تظاهرات الأيام الأخيرة أطلقت النذير بأن الشعب لن يواصل الاستكانة إلى مخدر "الانتصارات" والشعارات الطنانة، في وقت يتأكد العجز عن المعالجة، إذا استمر باب الإصلاح الحقيقي موصدا، وثروات الشعوب الإيرانية تهدر على تمويل رغبات النظام التوسعية وفساد أركانه.
لكن النظام يكابر، وعاجلا أم آجلا سيكون عليه مواجهة استحقاق داهم ، لا يمكنه التسويف إزاءه طويلا، وهو المتمثل بموجبات تطبيق بنود الاتفاق النووي، الذي، وإلى إشعار آخر، يبقى النافذة الوحيدة أمام إيران للخروج من مأزق وضعها الاقتصادي المتأزم... هذا مع العلم أنه وفي الوقت الذي تقدر حكومة روحاني الاستثمارات الأجنبية اللازمة للنهوض بالاقتصاد بنحو 50 مليار دولار سنويًا، لم تتمكن سوى من جذب 11 مليار دولار استثمارات مباشرة منذ كانون الثاني 2016، وحتى منتصف 2017؛ وهو ما يعتبر كارثيًا، ويؤثر بالسلب على الوضع الاقتصادي للبلاد. وسيكون الاستمرار بهذا المنحى طريقا إلى فقدان النظام قدرته على الاحتفاظ بما حققه من مكاسب الهيمنة والتحكم بالقرار " في العراق وسوريا وشمال أفريقيا والخليج الفارسي"، علما أن هذه الهيمنة تحققت لأسباب كثيرة من بينها انغماس "الحرس الثوري" والميليشيات التي صنعتها طهران في إحباط ثورات شعوب المنطقة على استبداد حكامها وهيمنة الفساد وانعدام الديموقراطية وتضاؤل فرص الحياة الأفضل... وستبقى كل جبهة للحرب نشطت فيها إيران تشهد ارتفاعاً في وتيرة التوتير المذهبي، الأمر الذي يُعقِّد قدرة طهران على السيطرة.
ولن ينفع النظام أن يحشد الملايين من البشر في تظاهرات التأييد، أو أن يواصل التعتيم على ما يجري داخل حدود الجمهورية الإسلامية. فالإيرانيون يدركون جيدا ما يدور في العالم من حوله، وهم على إطلاع إلى حد كبير على كيفية العيش في أماكن أخرى من العالم.
ذلك كله يدفع إلى القول إن التغيير آت، وإن نضوج ظروفه مسألة وقت.