عندما تساءلت «نيويورك تايمز» كيف يمكن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن يساعد المتظاهرين الإيرانيين، أجابت: «عليه فقط أن يصمت»! لكن ترامب يعمل ومنذ اليوم الأول للتظاهرات في إيران على عكس نصيحة الصحيفة الأميركية الكبرى. فهو لم يفوت مناسبة إلا وأبدى فيها رغبته في «مساعدة» المتظاهرين، لا بل إن حجم الاهتمام الأميركي بما يحصل في إيران يفوق مستوى الحدث، بحيث يشعر المرء فعلاً بأن الرئيس الأميركي يرغب في القضاء على المتظاهرين.
وسرعان ما كشف الرئيس عن دوافعه، وهي بحسب تغريدة له، تظهير خطأ سلفه باراك أوباما المتمثل في «رفعه العقوبات عن طهران... وإدخال أموال إلى جيوب مسؤولي النظام في إيران»! وبهذا المعنى، ليس الشأن الإيراني ولا أهداف المتظاهرين، هما ما يشغل بال الرئيس، إنما تصفية حسابات مع السلف.
ومسارعة واشنطن إلى تبني مطالب المتظاهرين الإيرانيين قبل تكشّف حجم تحركهم، وقبل رصد وجهة التظاهر وطبيعته، تبدو لافتة حقاً، إذ إن الحكمة تقتضي الانتظار، لا سيما أن إعلان التضامن والدعم سيكون بمثابة ملاقاة النظام في اتهاماته الجاهزة والمجربة عام 2009. وسرعان ما استجاب المرشد الإيراني علي خامنئي لمساعي ترامب، فاتهم «أعداء» في الخارج بالوقوف وراء ما يحصل في المدن إيرانية.
والحال أن على المرء أن يباشر إعادة النظر في العلاقات «المتوترة» بين واشنطن وطهران، ففي موازاة هذا التوتر تحصل وقائع كثيرة لا توحي بأنها تتويج له. واشنطن سلمت العراق إلى طهران بالمعنى الفعلي للتسليم، وهي تقف مكتوفة اليدين حيال أدوار طهران في كل من سورية ولبنان واليمن، وهذا ليس دأب الإدارة السابقة فحسب، إنما ما استمرت في اعتماده الإدارة الحالية، مع فارق يتمثل في رفع سقف خطاب الخصومة.
تقول واشنطن اليوم أنها تدرس تنفيذ عقوبات جديدة على طهران لـ «مساعدة» المتظاهرين. وكم يبدو واضحاً أن لا قيمة عملية لهذا الإجراء باستثناء مضمونه الخطابي، إذ كيف يمكن أن يستفيد المتظاهرون من تنفيذ هذه العقوبات، إذا ما تحول الوعد إلى واقع؟ أما القيمة «التسويقية» لهذا الإعلان، فهي ما يبدو أنها تتقدم القيمة الواقعية. واشنطن تبيع خطاباً معادياً لطهران للخصوم الإقليميين للأخيرة، وفي الوقت نفسه لا تحاول إعاقة أي تقدم تحرزه طهران في نفوذها الإقليمي. هذه المعادلة لم نتوقف عن اختبارها مُذ وقّعت بغداد معاهدتها مع واشنطن في عام 2009، وحينذاك ارتفع صوت طهران عالياً في وجه المعاهدة، لنكتشف لاحقاً أن لا أحد استثمر فيها بقدر ما استثمرت طهران.
يمكن المرء أن يُعدد ما لا يحصى من المحطات التي كشفت عن قبول أميركي بتعاظم الدور الإيراني في المنطقة. بدءاً من الشكل الذي خيضت فيه الحرب على «داعش»، والتي بدا فيها النصر إيرانياً، ومروراً بموقف واشنطن من الاستفتاء الكردي الذي قدمت في أعقابه واشنطن حلفاءها الأكراد هدية لإيران، ووصولاً إلى تصدر «حزب الله» سورية ولبنان من دون أي تحفظ أميركي. في الشكل، واشنطن لم تقف إلى جانب طهران، لكن في المضمون لم تعترض النفوذ الإيراني المتعاظم.
واليوم إذا ما أراد المرء أن يُحاكم الموقف الأميركي «المنحاز» إلى المتظاهرين الإيرانيين، فلن يجد غير هذا السياق المخاتل لتفسيره، ذاك أن وراء الاستعجال الأميركي علامات استفهام كبيرة. فهز «استقرار» إيران لا ينسجم مع مسار طويل من التنازلات الأميركية لها، ومن العلاقة الضمنية والواقعية مع نفوذها المتعاظم في المنطقة. وخطاب ترامب التصعيدي حيال طهران، ومنذ اليوم الأول من انتخابه لم يترافق مع أي خطوة عملية لترجمة التصعيد تضييقاً أو مواجهة. ونصيحة «نيويورك تايمز» له كانت أمراً بدهياً إذا ما رغب المرء في مساعدة المتظاهرين، في الأقل في المرحلة الأولى من حراكهم. وأن تفعل واشنطن عكس ذلك، على مستوى الخطاب في الأقل، فهذا مؤشر باتجاه آخر، وهو ما لن يساعد المتظاهرين، لا بل سيساعد النظام على قمعهم.