وصلت «الرسالة الشعبية» الإيرانية، عبر شوارع مدن كبيرة وكبرى، أبرزها مشهد وأصفهان. لم يخرج الإيرانيون بدعوة من أحد. خرجوا، لأنهم وصلوا إلى نقطة لم يعودوا قادرين فيها على تحمّل الضغوط اليومية. خرجوا إلى الشوارع بدون قيادة ولا توجيه. ما حدث كان انفجاراً شعبياً، لأنه مهما جرى لإخفاء تفاصيل الأزمات، فإن السلطات لم يعد بإمكانها إخفاء الواقع المرّ، وهو أن ربع الشعب الإيراني يعيشون تحت خط الفقر، في وقت تعيش أقلية تشكّلت في معظمها في السنوات الأخيرة، في وضع اقتصادي أبرز مظاهره قيادة أبناء هذه الأقلية المُمسِكة بالاقتصاد والسلطة، السيارات الفارهة المُستوردة رغم كلفتها الباهظة جداً، وأن جزءاً مهماً من الميزانية الوطنية يذهب إلى التنظيمات الخارجية.
الانفجار الشعبي وقع من دون توجيه، وبسبب ارتفاع كلفة المعيشة، حتى قيل إن البيض وهو من صلب لائحة الطعام اليومية أصبح نادراً وإذا وُجد فإن أسعاره مرتفعة لا تُحتمَل. وأيضاً أن هذا الفقر جاء نتيجة لخليط يومي من الفساد وارتفاع منسوبه بحيث أصبح مرئياً في كل مكان، خصوصاً في العديد من المؤسسات المهمّة والمؤثّرة، إلى درجة أن الإيراني أصبح مضطراً للتعايش معه ولو على حساب مدخوله اليومي المنخفض.
هذا الوضع غير المتداول إعلامياً وإنما شعبياً في داخل الدواوين المغلقة، يجعل من كل حدث صغير قضية يجري تخزينها في الذاكرة الشعبية الإيرانية. وما زاد في تحويل كل حدث إلى قصة مشتعلة، أن الإعلام الإيراني، رسمي جداً لا يمرّر إلاّ الأخبار الحكومية. وما ذلك سوى لأن «النظام الخامنئي» استحدث طريقة في القمع الإعلامي استثنائية في كل العالم. يكفي أن لا ينفذ الإعلامي التوجيهات أو التعليمات حتى يدخل عالم الصمت المطلق. لا يعود للصحافي الحق ولا إمكانية الكتابة ولا الكلام. هذا حصل لأفضل الصحافيين ومنهم ما شاء الله شمس الواعظين، وعلي حكمت وعبدالله نوري، ولأبرز الفنانين والمخرجين السينمائيين، وآخرهم محمد رسولوف الذي سُحِبَ جواز سفره ومُنع من الخروج والإخراج.
كمّْ الأفواه، وتقييد الأيدي، وإغماض الأعين، سمح للنظام الخامنئي منذ 25 سنة في أن لا يتقاعد أي عضو فيه. أحمدي جنتي وصل إلى التسعينات وما زال - ومثله في ذلك كثر حتى ولو كان عمره أقل - متمسكاً بموقعه، وبالتالي من الطبيعي أن تتشكّل حوله مجموعة تنفسد أو تُفسد لتبقى وتستمر في الإمساك بمراكز القوى.
الأخطر أن آلة النظام المُتشدّدة التي تفتخر بالديموقراطية الشعبية التي كان من أبرز نتاجاتها انتخاب حسن روحاني رئيساً للجمهورية، تقيّد كما قيّدت الرئيس محمد خاتمي، فلا يستطيع إحداث أي تغيير، وكل ما يجري يتم على وقع صراع مكشوف شعبياً بين المحافظين المتشدّدين والإصلاحيين.
هذا الشلل الذي يكاد يُفرض اليأس الشعبي هو الذي دفع الإيرانيين لاقتحام الشوارع بدون دعوة ولا تنظيم. ولذلك أيضاً اخترقت هذه العفوية الشعبية سقف الشعارات الإصلاحية. لم تعد مطالب الحركة الشعبية محصورة بإصلاح النظام وإنّما بإسقاط النظام عبر الدعوة لإسقاط «الديكتاتور».
«النظام الخامنئي»، أبدى اغتباطه بأن الاحتجاجات هدأت، وأن عدد القتلى محدود، وأن كل ما حصل «يكاد يكون عاصفة في فنجان». في الواقع «الانفجار» هدأ، لكنه اخترق جدران الصمت، والإيرانيون يتناقلون الآن شعار: «لنرى ماذا بعد».
الرئيس حسن روحاني، يبدو مقيّد الحركة لأنه يعرف أن إقحامه في الشعارات منذ البداية، كان جزءاً من محاولة الانقلاب عليه وشطبه من عملية خلافة المرشد، إلى جانب محاصرته وإضعاف قراره في الإصلاح. في وقت خسر فيه «مرشده» السياسي آية الله هاشمي رفسنجاني الذي لا يعرف حتى الآن ما إذا كان قد اغتيل سرّاً أم مات فجأة. أوساط روحاني، وربما بتوجيه شخصي منه، مرّرت قوله بأن «استمرار الاحتجاجات سيؤدي إلى أزمة شرعية». لذلك إذا كان «الانفجار» قد خمد فإنه بداية لانفجارات أخرى على طريقة «الزلازل الارتدادية».
كل شيء يتوقّف الآن ومستقبلاً على ردّة فعل المرشد علي خامنئي ونظامه. فإذا استوعب مضمون «الرسالة الشعبية» وعَمِل بها فإن الوضع قد يستقر خصوصاً أن الإيرانيين يخشون وقالوها علناً: «لا نريد سورنة إيران». أما إذا اعتبر أن ما حدث قد حدث وليس له ارتدادات فإن انفجاراً أضخم وأكثر انتشاراً وأعمق شعبياً واقع حكماً. مشكلة المرشد خامنئي، أن إصلاح النظام الذي «حاكه» طوال 25 سنة مستحيل إذا لم يتم فكفكته وإبعاد الفاسدين والذين استثمروا السلطة سلطوياً ومالياً. وهذا ليس بأمر بسيط، خصوصاً أن الكثير منهم تداخل وجوده في الداخل مع التمدّد الخارجي. من ذلك، أن وقف جزء مهم من تمدّد قيادات من «الحرس الثوري» اقتصادياً يتطلب إعادة ضبط تمدّد سلطة «الحرس» التي تضخّمت عبر النشاط الخارجي. باختصار تقييد انتشار «الحرس» في سوريا والعراق أساساً وفي لبنان واليمن، يعني نسف كل «الاستراتيجية الخامنئية» بالدفاع عن النظام بعيداً عن الداخل الإيراني.
يبقى أن انفجار الشارع الإيراني، أثار قلق موسكو، خصوصاً أنه شكّل مفاجأة غير سارّة، وأنه تطوُّر يربكها في سوريا، وهي على أبواب صياغة الحل السياسي. أما تركياً، فإن استقرار إيران يشكّل جزءاً من استقرارها كما قال وزير الخارجية، وإنه إذا كانت «القيادة ستتغيّر في إيران فإن الشعب الإيراني هو الذي سيفعل ذلك» (يُلاحظ أن أنقرة لم تستبعد من حساباتها التغيير).
أخيراً، فإن الرئيس الأميركي دونالد ترامب العاجز عن مواجهة كوريا الشمالية، يجب ألا يستبدل عجزه في كوريا بالتصعيد في إيران. لأنه بذلك «ينحر» التغيير في إيران وفي المنطقة.. فالتغيير يكون إيرانياً أو لا يكون!