ما كانت تحركات الإيرانيين الأخيرة جديدة في حقبة ما بعد ثورة العام 1979، فمن الأحداث التي نعرفها تحركات طلاّب الجامعات في العامين 2000 و2002، وقد تمكنت قوات الأمن من إخمادها في الحالتين لأنها ظلت معزولة عن الشارع، ولأنّ رئيس الجمهورية الإصلاحي خاتمي تخلَّى عنها إرضاءً لخامنئي الذي لم يرض على أي حال، واستبدل محمود أحمدي نجاد به عام 2005، كانت مطالب الطلاب ذات شقين؛ شق يتعلق بتدخلات الأمن والاستخبارات في الحياة الجامعية، وحرية التعليم، وشق يتعلق بما كان يجري على المثقفين الإيرانيين بعامة في ذلك الوقت، إذ لم يكتفِ القضاء الإيراني بالحكم على عشراتٍ منهم بالسجن لمددٍ طويلة، بل ومنذ العام 1998 أقبل الاستخباريون أو «شرطة الثقافة» على اغتيالهم في بيوتهم، وفي مرتين: الرجل وزوجته معاً! وقد أحس زعماء الطلبة بخيبة شديدة من خاتمي الذي انتخبوه للرئاسة مرتين بحماس، لأنه ما استطاع «تحرير» كثيرين من السجون في قضايا مصنوعة، ولأنه ما استطاع إيقاف الاغتيالات في صفوف المثقفين، ولا الدفع باتجاه القبض على القتلة ومحاكمتهم. والطريف أنّ كلاً من روحاني ونجاد وقتها نقدا خاتمي: روحاني لأنّ خاتمي تخاذل في الدفاع عن الحريات والثقافة، وحريات التعليم والبحث العلمي، ولأنه لم يسْعَ لكشْف سر الاغتيالات. أما نجاد فقد نقد خاتمي لأنه ما كان صارماً كفاية تجاه ظواهر الانحلال والاختلال في الثقافة الإيرانية! 
إنما لا شك أن تمرد العام 2009 كان هو الأكثر اتساعاً وجدية وخطراً على جمهورية ولاية الفقيه. فقد تحمست الطبقات الوسطى الإيرانية لمير حسين موسوي رغم أنه من رقبة النظام، وكان رئيساً للوزراء في الثمانينات، لأنه كان معروفاً بالنظافة والنزاهة. ثم لأنّ شعبوية نجاد العشوائية ما عادت تُطاق (!). والذي حدث أنه كان هناك تزوير فاضح في الانتخابات، وفاز نجاد على المرشحين الآخَرَين؛ فاندلعت المظاهرات في عدة مدن، احتجاجاً على المهانة التي نزلت بالجمهور نتيجة تزوير إرادته. وهذا إلى الأوضاع الاقتصادية السيئة نتيجة الحصار الذي فرضته الولايات المتحدة، ومن ورائها العالم على إيران بسبب ملفها النووي. وهكذا فالأوضاع الاقتصادية والمعيشية والسياسية كانت متردية فجاء تزوير الانتخابات صراحة باعتباره ذروة من ذُرى تجاهل الإرادة الشعبية!
استمرت «الثورة الخضراء» لثلاثة أسابيع، سقط خلالها مئات القتلى وآلاف الجرحى، وجرى القبض على آلاف المحتجين. وتدخلت في ذلك كل القوى الأمنية بما في ذلك الجيش وليس الحرس الثوري والباسيج وحسْب. وإلى عام 2016 كان ما يزال هناك معتقلون على ذمة الثورة الخضراء. أما المتهمان الرئيسيان، اللذان تجرآ على الترشح ضد نجاد فما يزالان في الإقامة الجبرية! ونجاد نفسه يطالب منذ أكثر من سنتين بإطلاق سراحهما، كما أنّ روحاني اعتبر «التحرير» جزءاً من برنامجه الانتخابي أو وعوده الانتخابية؛ لكنّ شيئا من ذلك لم يحدث! فشلت ثورة عام 2009 الخضراء إذن بسبب القمع المفرط. وأعطت السلطات إيهامين أراحا الجمهور مؤقتاً: المفاوضات مع الولايات المتحدة التي كانت مستعدة من أجل منع إيران من إنتاج سلاح نووي، لفك الحصار عنها، وتسييل عشرات المليارات من الدولارات إليها، فضلاً عن دمجها في المجتمع العالمي - أما الإيهام الآخر فهو الوصول إلى شراكة مع الولايات المتحدة بشأن السيطرة على الشرق الأوسط العربي، وكان السبيل لذلك منذ العام 2010 - 2011: إنشاء الميليشيات وجمعها من سائر أنحاء العالم الشيعي وتسليطها على الناس في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين والبحرين واليمن، وكل ذلك بحجتين؛ حماية الشيعة ومزارات آل البيت من التكفيريين السُنة، وكسْب موارد ووجوه نفوذ جديدة للفقراء الإيرانيين، والدولة الإيرانية.
وما تحقق شيء من الوعود والإيهامات. فروحاني الذي فاز عام 2014 على وقْع «نجاحه» مع وزير خارجيته في اجتذاب الولايات المتحدة إلى الصداقة مع إيران، ما جلب نصف الأموال التي طمح إليها، والولايات المتحدة في عهد ترمب شديدة العداء للجمهورية الإسلامية، والتهديد الإيراني بالعودة إلى النووي غير مقدورٍ عليه دولياً ولا مالياً. أما الحرس الثوري فرغم أنه خرَّب عدة بلدان، فلا النفوذ الإيراني بمأمن، ولا الموارد زادت، بل الذي حصل ضرورات الإنفاق على المزيد من الميليشيات العراقية والباكستانية والأفغانية واللبنانية. وما عاد الابتزاز بإسرائيل وتهديدها ممكناً، لأنّ إسرائيل ترد في لبنان وسوريا. ولأنّ «الصداقة» التي جرى الرهان عليها ما حصلت مع أميركا، بل مع روسيا الاتحادية التي لكل شيء عندها ثمنٌ باهظ، وهي لا تورّث أحداً، بل تشارك وتغلب في مقابل ما قامت به.
كان المؤرخ الأميركي بول كيندي قد قال في كتابه: «صعود الإمبراطوريات وانهيارها» إنّ الدول الكبيرة لا تنهار بالهزائم العسكرية وحدها. بل في المدى الطويل فإنّ الانهيار يحصل نتيجة العجز عن الإنفاق على المستعمرات الشاسعة التي لا تكفيها مواردها، أو نتيجة العجز عن تأمين الاستقرار لرعاياها ولممتلكاتها إلاّ بواسطة «قوى صغرى من صناعتها» لا تلبث أن تقوى وتتمرد!
إنّ الذي أنتج حالة التذمر التي انفجرت الآن بإيران: الضيق الاقتصادي والمعيشي الذي تخلفت عنه وعود الرخاء وفك الحصار والهجرة إلى العالم الأوسع، ومن جهة أُخرى زيادة الأعباء على موارد الدولة بسبب الإنفاق على التسلح، وعلى عشرات الميليشيات وعلى النظام السوري وعلى يمن الحوثيين، وعلى نشر التشيع في العالم. ولنلاحظ أن الرئيس روحاني ووزير خارجيته بنيا شهرتهما على معارضة سياسات الحرس الثوري الخارجية ومعارضة استيلائه على موارد ومجالات اقتصادية بالداخل. لكنهما منذ عدة أشهر صارا يدافعان يومياً عن الحرس وعن السياسات بسوريا والعراق ولبنان واليمن والبحرين. ويتناغمان بذلك مع نصر الله وجعفري وسليماني وقادة ميليشيات الحشد الشعبي. فهل يكون ذلك سياسة جديدة، أو أن توسعات إيران ستكون لها نتائج سياسية، والحديث مع روسيا وتركيا يتطلب جهات سياسية وليس أمنية وحسب؟! لكن بسبب تدخلات روحاني في سياسات التوسع، فإنه لقي من الإدانة ما لقيه جعفري وسليماني. وعلى أي حال، فإنّ الاحتجاجات هذه المرة تأتي من الفئات الدنيا، وأهل الأرياف. ولا تبدو لها قيادة مركزية، ولا تسيطر عليها تنظيمات قوية. وهذه نقاط قوة وضعف في الوقت نفسه. هي نقاط قوة، لأنه في العام 2009 جرى القضاء على المركز فانتهى التمرد. لكن من ناحية أُخرى التنظيم هو الذي يقود باتجاه الأهداف، أو يسقط التحرك في الإرهاق والعنف ومكائد الأجهزة والسياسيين.
إنّ اللافت للانتباه أنّ أهل النظام لا يبدون منزعجين كثيراً. وهم مختلفون على السياسات تجاه المتظاهرين، بالقمع أو بالإصغاء للمطالب (؟!). ولذلك كله دلالات كثيرة: «والله غالبٌ على أمره، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون».