بدأ إعلام الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة بعد اتّساع التظاهرات الشعبيّة فيها يوجّه أصابع الاتّهام إلى عناصر داخليّة متعاملة مع عدوّتها أميركا التي اتّخذ رئيسها الجديد مواقف بالغة السلبيّة منها. لكن ذلك بقي محدوداً لأن ما جرى فاجأ واشنطن والعالم، ولأن الدافع إلى التظاهر في البداية لم يكن سياسيّاً، ولأنّه بدا تعبيراً عن تطوّر الصراع داخل “الجمهوريّة” بين الإصلاحيّين ورمزهم الرئيس حسن روحاني والمحافظين المتشدِّدين ورمزهم الوليّ الفقيه علي خامنئي ومعه القوى العسكريّة كلّها. علماً أن الصراع المُشار إليه كان تسبّب بأزمة سياسيّة وشعبيّة حادّة عام 2009 سُمّيت “الثورة الخضراء”، وتمثّلت بتظاهرات حاشدة جدّاً في طهران ومدن أخرى بعد فوز نجاد بالرئاسة واتّهام منافسَيْه “الدولة” ومتشدّديها بالتزوير لمصلحته. والإثنان من أبناء الثورة الإسلاميّة وأحدهما مير موسوي كان يحظى قبل الانتخابات بتقدير جماعات محافظة عدّة داخل إيران وخارجها. لكن تمّ تجاوز الأزمة لأن الصراع بين جناحي النظام الإسلامي لم يكن بلغ الحد الخطير الذي يراه الإيرانيّون اليوم، وأيضاً لأن “السلطة” استعملت الحكمة في مواجهة التظاهر وتجنّبت إسالة الكثير من الدماء. كما أن المتظاهرين، ورغم اندساس أعداء النظام بينهم، أكّدوا انتماءهم إليه وإصرارهم على إصلاحه ولم يبلغوا درجة المطالبة بالتخلّص منه.

طبعاً لا يعني ذلك كلّه أن “الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة” المُصرّة على تشدّدها دخلت دائرة الخطر. لكنّه لا يعني أيضاً أن دخولها إيّاها مستحيل رغم “انتصاراتها” في العراق وسوريا، التي جعلت مشروعها الإقليمي الطموح، أو التوسّعي كما يُسمّيه أعداؤه، ممكن الإنجاز. فمن جهة تناصبها أميركا ترامب العداء بصرف النظر عن تصرّفاتها ومدى عقلانيّتها. علماً أن مؤيّدي “الاتفاق النووي” الموقّع معها عام 2015 ورافضي السلبيّة الإيديولوجيّة الترامبيّة لها بدأوا يعتقدون أنها لا تتصرّف بحكمة وبراغماتيّة. وهما صفتان استعملتهما غير مرّة. وفي رأي واشنطن أن استمرار إيران في العمل للسيطرة على الشرق الأوسط وتزويدها من يقاتلون بالنيابة عنها في اليمن وسوريا ولبنان بالصواريخ أصبح مصدر قلق بالغ في ظل متابعتها تطوير برنامجها الصاروخي الباليستي. ومن الأفضل لها في رأي أميركيّين كثيرين بعد التظاهرات الحاشدة أن تتراجع. ذلك أن دورها سيأتي بعد نجاح أميركا في إيجاد حل للتهديد الذي تشكّله لها وللعالم كوريا الشماليّة. علماً أن حاجة الحل المُشار إليها إلى وقت غير قصير لاعتبارات متنوّعة قد لا تدفع المسؤولين المتشدّدين في طهران إلى اللجوء إلى الحكمة والبراغماتيّة.

 ومن جهة أخرى فإن نجاحاتها في سوريا لا تضمن لها حتى الآن الحل الذي تريده لها وهو استمرار نظام الأسد، لأن روسيا هي التي جعلتها ممكنة بجيشها وسياسة رئيسها بوتين وبقراره جعل هذه الدولة مدىً حيويّاً لها. وهذا أمر قد يتسبّب بخلافات مع إيران. ومن جهة ثالثة لا يعتقد أحد أن حكّام إيران أي المُتشدّدين الإسلاميّين من العلماء والعسكر والأمن و”الحرس” مُرتاحون الى التوسّع التدريجي ولكن الثابت الذي تقوم به تركيا اردوغان الإسلامي والعثماني في قطر وافريقيا ومناطق أخرى. ومن جهة رابعة قد لا تساعد أوضاع العراق وصراعات قادة غالبيّة شعبه وهي شيعيّة وموالية لها وخصوصاً على عتبة الانتخابات المحليّة والنيابيّة إيران على المحافظة على مداها الحيوي الأهم فيه. وقد تساهم في ذلك محاولة السعوديّة التقرّب من العراقيّين، وربّما تصميم “زعيمها” وليّ العهد محمد بن سلمان على استغلال كل شيء من أجل إضعاف نفوذها في هذه الدولة وخارجها وزعزعة استقرارها الداخلي. ومن جهة خامسة يتساءل كثيرون كيف لا يتظاهر إيرانيّون كثيرون وهم يرون رموز الفساد والتنافس حتى التقاتل من أهل النظام جالسين مع بعضهم، كما في لبنان، في حين أن “العدالة” لا تحاسب إذا حاسبت إلّا المعاونين. وهم يعيشون وضعاً اقتصاديّاً ومعيشيّاً صعباً ربما جرّاء خيارات خارجيّة طموحة يقف العالم ضدّها وربّما يحول دون تحقيقها.

في اختصار التحدّي الذي يواجهه النظام الإسلامي في إيران حقيقي، وتهديد الدولة التي يفتخر باقامتها وبالديموقراطيّة الجزئيّة التي يمارسها حقيقي أيضاً. وعدم تثبيت الديموقراطيّة وتوسيع مروحة الحريّات والاكتفاء بالدين أو بالمذهب عصباً لشدّ الناس وجمعهم سيدفع هؤلاء شيعة كانوا أو سُنّة أو فرساً أو أكراداً أو عرباً أو أذريّين إلى الغضب واليأس ربّما. ونتائج ذلك كارثيّة.