المشكلة داخلية أولاً، في إيران، ثم خارجية. مثلما كانت ولا تزال داخلية أولاً، في سورية والعراق ولبنان واليمن، ثم أصبحت إيرانية. أما التداخل بين الداخل والخارج في إيران فهو من صنع نظامها الذي ترسّخ في الوهم بأن «انتصاراتـ» ـه في الخارج، أيّاً ما تكون شعاراتها، يمكن أن تعوّض لقمة العيش لأكثر من نصف شعبه الموزّع بين الجوع والعوز. وعندما تتكاثر الاختلالات في الداخل، بالتوازي مع تكاثر العربدات في الخارج، فمن الطبيعي أن يأتي يوم تنكسر فيه المعادلة. لذلك، شاع التساؤل: مَن أطلق الشرارة، كيف بدأت الاحتجاجات، كيف تمدّدت التظاهرات في عشرات المدن، وكيف، وكيف؟... ليس مهمّاً. فمعالم التأزّم كانت باديةً للعيان، وإنْ لم يشأ ملالي النظام وجنرالاته رؤيتها وإيلاءها الأهمية، إذ أصبحوا متيقّنين أن «كيّ وعي» المجتمع قد أنجز على وقع القمع الشديد تلو القمع الدموي، وبالتالي فإن توالي الإضرابات العاملية على مدى شهور بسبب انخفاض الأجور وتأخّر الرواتب وتدهور الخدمات، كذلك حوادث طعن رجال الدين، لم تثر لدى أقطاب النظام أي قلق. إنها غطرسة القوة، في الخارج كما في الداخل.

كان مفترضاً أو متوَهَّماً، لدى إدارة باراك أوباما وعدد من الحكومات الغربية، أن الاتفاق النووي سيفضي إلى تغيير في «سلوك» إيران وسياساتها، أو بالأحرى عدوانيتها، في الخارج بل خصوصاً في الداخل. وكان متصوّراً أن مصالح النظام الإيراني وبراغماتيّته ستدفعانه تلقائياً إلى تطوير البنية الاقتصادية للبلد وتحسين مستوى المعيشة، باعتبارهما أولوية بدهية لدولة مدركة حاجاتها العاجلة. والمؤكّد أن المجتمع الإيراني ذاته، قبل الأطراف الخارجية، كان آخذاً بهذه التوقّعات، فهو صبر أعواماً طويلة وتحمّل أعباء العقوبات الدولية وتضامن كواجب وطني مع دفاع النظام عن برنامجه النووي، وما لبث الإيرانيون ولا سيما الشباب أن خرجوا فرحين ومهللين بالتوقيع على الاتفاق النووي الذي يعني إلغاء العقوبات وصعود الآمال بتحسّن الأوضاع وتوافر فرص العمل. لكن تبيّن سريعاً أن رهان الدول الغربية على تحسّن السلوك الإقليمي لإيران لم يختلف عن رهان الإيرانيين على تحسّن سلوكها الداخلي. فكلاهما لم يتحقّق.

كانت الآمال عُقدت كلها على الرئيس حسن روحاني، «المعتدل» و«القريب من الإصلاحيين»، وعلى رغم ضعف إصلاحاته الداخلية ومحدوديتها أعطي سَنَتَي سماح ثم أعيد انتخابه لولاية ثانية، وبدت الموازنة الأولى التي يتقدّم بها الشهر الماضي بمثابة محكٍّ اختباري. كانت كذلك بالفعل، إذ أظهرت عزمه على توطيد حكمه ذاهباً إلى «وفاق» ينهي خلافات الحكومة مع «الحرس الثوري» والمؤسسات الدينية المرتبطة مباشرةً بالمرشد علي خامنئي، بزيادة المخصّصات المرصودة لها من دون أن تكون لديه الموارد الكافية. كيف يسدّ العجز؟ بالأخذ من القليل المتوافر لدى الطبقة الوسطى ومن الأقلّ الموجود في جيوب الفقراء والأكثر فقراً. عدا إجراءات تصنّف «إصلاحية» في البلدان الطبيعية أو شبه الطبيعية كرفع أسعار الوقود والسلع الغذائية الأساسية، ناهيك بأزمة بدلات إيجارات المساكن التي لم تكن قد عولجت بعد، تضمّنت الموازنة قراراً بإلغاء الإعانات النقدية التي تُدفع للمُعدمين وكان محمود أحمدي نجاد يستخدمها سياسياً في جولاته المناطقية. نظرياً وبالمعنى العلمي لـ «تطوير» الاقتصاد يمكن اعتبار هذا القرار ضرورياً وصحيحاً. أما عملياً فلعله شكّل فتيل التفجير للانتفاضة الشعبية.

لا شك في أن أركان الحكومة والنظام كانوا يتوقّعون ردود الفعل، لكن تمرير الإجراءات بداعي إصلاح الاقتصاد والأوضاع المالية للدولة ينطوي على ثلاثة احتمالات: أن يبقى الاستياء تحت السيطرة وضمن حدوده المعهودة، أو أن تحصل احتجاجات متفرّقة ومعزولة ويمكن احتواؤها، أو في أسوأ الأحوال أن تفوق الاحتجاجات ما هو متوقّع وعندئذ تُترك للقمع والبطش كي يتكفّلا بها، فهذا ما يُنتظر من «الحرس» و«الباسيج» وقد حصلا على الموازنة التي أملا بها. من الواضح أنه لم يكن لدى أركان النظام والحكومة تقدير واقعي لضخامة النقمة التي تعتمل منذ أعوام طويلة داخل مجتمع أدرك أخيراً أن آماله بتحسّن معيشته قد تبخّرت وأن صبره قد نفد. لذلك، شكّلت الاحتجاجات مفاجأة، للنظام الذي طالما استبعدها مروّجاً أن المجتمع ملتفّ حوله ومعتز بإنجازاته، وللخارج الذي كان يتوقّع افتراضياً أن الشعب لن يواصل السكوت، بل كان يعتقد أن انتفاضة داخلية لا بدّ أن تندلع بعد أن يتلقّى النظام (في سياق الاستراتيجية الأميركية) ضربات في مناطق نفوذه في الخارج، أو بالتزامن مع هذه الضربات.

أخطر ما في تلك المفاجأة أنها بدأت في معاقل القومية الفارسية في العمق الإيراني، من مشهد وشيراز وأصفهان قبل أن تبلغ طهران، وليس في مواطن العرب والكرد والآذريين أو البلوش واللوريستانيين ذوي المطالب المزمنة بحقوقهم القومية. وأهم ما فيها أنها منذ ساعاتها الأولى 1) وضعت المحافظين والإصلاحيين في سلّة واحدة، و2) هتفت بـ «الموت» لـ روحاني و «الديكتاتور» (المعني به خامنئي) و «حزب الله»، و3) دانت في صرخة واحدة مخرجات النظام في ثلاثة عقود: الفقر، البطالة، الفساد، الحرمان، الغلاء، التضخّم... و4) ربطت طموحاتها الاقتصادية الداخلية بدعوات للكفّ عن إهدار الأموال في التدخّلات الخارجية. إذاً، فإن وعي الناس مهما تواضعت أحوالهم يبقى أقوى من جميع الضغوط الأيديولوجية وخدع الدعاية السياسية، فالعالم كله يقول أن الإيرانيين شعب عريق وحيوي، لكن يبدو أن قادته هم الذين نسوا أي شعب يحكمون. لذلك، يقال الآن أن خامنئي يواجه المعضلة ذاتها التي وجد فيها حليفه بشار الأسد، فكلاهما استثمر كثيراً خارج الحدود لحماية نظامه لكن الغطرسة أعمتهما عن تورّمات الداخل ومضاعفاتها.

هل يعني ذلك أن لا دور خارجياً في ما يحصل، وهل يعني أن «وقت التغيير في إيران حان» وفق ما غرّد دونالد ترامب؟ هناك الكثير من التشابه مع بدايات موجة «الربيع العربي» الذي اعتبر خامنئي أنه حصل بإيحاء من «الثورة الاسلامية». لا تُعرف قيادة للحراك الإيراني لكن أسبابه واضحة، ولا تُعرف له أهداف محدّدة لكن طموحاته التغييرية بادية، وإذا كان البعض استذكر أيام الشاه فلأن الثورة الخمينية تمكّنت من الانتصار في الداخل بوجود الشاه في طهران والخميني في باريس، أما «الإنجاز» الثوري فجعل التغيير أكثر صعوبة وتعقيداً وبالتأكيد أكثر دموية. وكما في الانتفاضات العربية فقد ينطلق كل شيء بدفع داخلي قبل أن يبدأ الاستغلال الخارجي، فالمعارضات الإيرانية في الخارج لها علاقاتها وهي لا تزال مرتبطة بشبكات في الداخل. ثم إن الدول المعنية نسجت روابط سياسية مع عدد من أبناء القوميات ودعمتهم ودعتهم إلى تنظيم صفوفهم في انتظار الظروف الملائمة لـ «التغيير». والسؤال الآن: هل يمكن الانتفاضة أن تستمر؟

ثلاثة سيناريوات محتملة. أولها أن النظام يريد الانتهاء سريعاً من هذا الحراك الذي شوّه هيبته وكشف عوراته كلها، بل وضعه فجأة أمام حتميتَي الاعتراف بوجود معضلة داخلية حقيقية وضرورة تقديم تنازلات. ومع توافر خيار العنف الدموي، فإن اتساع الحراك وشموله، واحتمال انضمام سائر القوميات إليه، وتعمّق الاستغلال الخارجي، قد تدفع بالمواجهة الأمنية إلى وضع أشبه بحروب أهلية موزّعة على عموم الجغرافية الإيرانية. والثاني أن يحاول النظام عزل مؤثرات أزمته الداخلية عن مقابض توسّعاته الإقليمية، فلدى الدولة العميقة من القدرة ما يمكنها من الحفاظ على النظام ولو بثمن دموي باهظ أخذاً بـ «النموذج الأسدي»، وفي المقابل لدى الميليشيات التابعة لها في العراق وسورية واليمن ولبنان، منظومات مصالح تحفزها على إدامة سطوتها والدفاع عن مكتسباتها أياً تكن الظروف، لكن إذا طالت الأزمة وتشعّبت فإنها قد تُضعف القبضة الحديد الإيرانية وتفتح للقوى الخارجية فرصاً لم تتح لها سابقاً. وفي الاحتمال الثالث، ولعله المرجّح، قد يفتعل النظام حروباً خارجية، ضد إسرائيل في الجولان، مع مواجهات منظّمة ضد الأميركيين في العراق ومياه الخليج، وتصعيد حوثي ضد السعودية، وذلك للتهرّب من الأزمة الداخلية، لكن استحقاقاتها ستواصل مطاردته.