يسهل على المراقبين في لبنان استنتاج حالة الوجوم التي تسيطر على حزب الله وحلفائه جراء ما يتواتر من أنباء عن الحراك الشعبي الراهن في إيران. يرفض الحزب حتى الآن التعليق على الحدث، فيما تهمّش وسائل الإعلام التابعة له الأمر وتكتفي ببث ما تخرج به المصادر الرسمية الإيرانية من بيانات حول الأمر.
غير أن مصادر متابعة لشؤون الحزب والمصالح الإيرانية في لبنان تؤكد أنه مهما كان شكل المخارج الذي ستنتهي إليه الأزمة الحالية في إيران، فإن حزب الله بات يعرف أن تداعيات سلبية سيتأثر بها الحزب حكما، وأن ذلك سيجبره على إعادة تموضع جديد داخل لبنان كما ملفات المنطقة.
مأزق حزب الله
يذكر المراقبون الخطاب الشهير للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله والذي أعلن ما كان معروفا من أن ميزانية الحزب ورواتب عناصره كما سلاحه وعتاده تأتي من إيران، معززا خطابا سابقا أعلن فيه أن حزب الله بقيادته وعناصره موال للولي الفقيه في إيران ويعمل وفق تعليمات وإرشادات مرشد الثورة علي خامنئي.
وأتت تصريحات نصرالله في السنوات الأخيرة لتؤكد استمرار الخطاب الأول للحزب والذي شاع بشكل كبير من خلال شريط فيديو وزّع على نطاق واسع يعلن فيه نصرالله أن الهدف النهائي في لبنان هو إقامة دولة إسلامية في لبنان لا تكون مستقلة بل جزءا من الجمهورية الإسلامية في إيران بقيادة الولي الفقيه.
ويلحظ المراقبون لشؤون الحزب في لبنان أن بيئة اجتماعية كاملة تعيش منذ انطلاقه في أوائل الثمانينات داخل شبكة فقهية أيديولوجية معززة بأخرى مالية إدارية لوجيستية لا تعرف بديلا معيشيا آخر غير ما توفره المنظمات والهيئات والجمعيات التابعة لحزب الله. فإضافة إلى رواتب المحازبين فإن للحزب أنشطة اقتصادية موازية لأنشطة الدولة اللبنانية، يعمل داخلها الآلاف من شيعة البلد يشكلون مع عائلاتهم طبقة خاصة لصيقة بمصير الحزب وتبدل خياراته.
ولاحظ العارفون في لبنان تراجعا في أحجام الميزانيات التي تضخها إيران لصالح أتباعها في لبنان. فقد عمد حزب الله إلى حلّ جماعات نصيرة له وتراجع حجم المخصصات التي كانت توزع داخل الطائفة الشيعية كما داخل الطوائف الأخرى. كما كشفت وسائل الإعلام العاملة في لبنان والممولة من إيران عن سلسلة من تدابير تسريح الموظفين وضغط الإنتاج وإقفال مكاتب في الخارج على نحو يعكس جانبا من أزمة مالية كانت موجودة قبل انفجار المظاهرات الحالية في المدن الإيرانية.
ويعتبر حزب الله الذراع الأولى للنظام الإيراني في الخارج، فمهام الحزب تجاوزت الحدود اللبنانية وظهرت بشكل سافر في المشاركة الحيوية والمباشرة في الحرب السورية دفاعا عن نظام الرئيس بشار الأسد. لكن التقارير المتراكمة في الأعوام الأخيرة كشفت عن أدوار للحزب في العراق ودول الخليج (خصوصا ما كشفه إلقاء القبض على ما يطلق عليه خلية العبدلي في الكويت) وعبر دعم الحوثيين في اليمن. وبالتالي فإن راهن الحزب ومستقبله رهن ما يملكه الحرس الثوري والتيار المحافظ والمرشد الأعلى علي خامنئي من نفوذ داخل إيران نفسها، وإن أي تغييرات قد تفرضها المظاهرات الحالية في البلاد ستطال مباشرة حجم ودور ووظيفة وقوة واستمرارية حزب الله خارج إيران.
وعلى الرغم من امتلاك حزب الله لشبكات تمويل متعددة في العالم كشفت عنها تقارير الأجهزة الغربية خلال العقدين الأخيرين، ورغم انخراطه في أنشطة غير مشروعة وارتباطه بمافيات تهريب المخدرات وتبييض الأموال، لا سيما في أفريقيا ودول أميركا اللاتينية (وهذا موضوع كشفه مؤخرا موقع بوليتكو الإخباري الأميركي)، إلا أن الحزب لا يمكن أن يتحرّك بشكل ذاتي دون دعم حقيقي مباشر من الخزائن الإيرانية، ثم إن الحزب الذي يتعرّض لعقوبات أميركية شديدة تطال منظوماته المالية وشبكاته في العالم ستشل الهامش الذاتي في التمويل سيكون أكثر ارتهانا للميزانيات التي تضخها طهران داخل أوردته.
والتقط المراقبون أعراض ارتباط الأزمة في إيران بحزب الله منذ اندلاع احتجاجات الحركة الخضراء في إيران عام 2009. فقد نزل المئات من الآلاف إلى شوارع طهران ومدن أخرى ضد ما اعتبروه تلاعبا في نتائج الانتخابات الرئاسية لصالح مرشح التيار المحافظ محمود أحمدي نجاد على حساب منافسه مرشّح التيار الإصلاحي المعتدل مير حسين موسوي. وقد هتف المتظاهرون بشعارات “إيران أولا”، منددين بإنفاق ثروات البلاد على حزب الله في لبنان وحماس في غزة وغيرهما. وليس غريبا أن يربط المحتجون حاليا بين الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد وبين الإنفاق غير المحدود على الميليشيات في الخارج، ذلك أن تلك الصلة باتت عضوية في الوعي الشعبي العام في إيران.حزب الله يخير الصمت
ويرى مراقبون غربيون للشأن الإيراني أن ملف الإنفاق الخارجي بقي مكتوما قلما يطاله السجال العلني بين التيارات السياسية في إيران، رغم أن قادة التيار الإصلاحي سبق أن أثاروا الموضوع لكن ليس بنفس القوة التي يعبر عنها بشكل صارخ الشارع في إيران.
قلب الأولويات
يلاحظ المراقبون أن نبض الشارع في هذا الصدد يلتحق بقوة بمواقف صدرت من داخل النظام نفسه تتبرم تارة من تلك العلاقة مع حزب الله وتستهجن كل هذا الاستثمار المالي والعسكري من أجل حماية نظام الأسد في دمشق وتتساءل عما تفعله إيران في الداخل اليمني.
ورغم تجنب المراقبين المخاطرة في استشراف ما ستنتهي إليه مظاهرات هذه الأيام، ورغم ميل الخبراء إلى استبعاد سقوط النظام أو تعرضه لخطر وجودي، إلا أن بعض التحليلات حتى تلك القريبة من النظام الإيراني بدأت تتوقع أن تسبب الصدمة المفاجئة قلبا لسلم الأولويات بحيث يعود الوضع الداخلي ليكون في واجهة اهتمامات الحاكم في إيران، وأن ذلك سيتداعى على حجم وطبيعة الإنفاق على الميليشيات التابعة لإيران في الخارج وفي مقدمتها حزب الله.
وتقول بعض المراجع الأوروبية المتخصصة بشؤون الميليشيات الإقليمية التي تعمل لمصلحة إيران إن حزب الله سيدفع ثمن أي تحولات إيرانية أكثر من أي تشكيلات ميليشياوية أخرى في المنطقة لكونه صناعة إيرانية تم غرسها في لبنان من خارج السياق السياسي الطبيعي للبلد، فيما نمت الميليشيات في العراق داخل بيئة عراقية راكمت تجربة محلية منذ أن كانت تعمل في دوائر حزب الدعوة والمجلس الأعلى الإسلامي وتيارات أخرى كانت مناهضة لنظام الرئيس الراحل صدام حسين. وتضيف هذه المراجع أن للميليشيات العراقية التابعة لإيران حيثية عراقية يسهل وضع سقف محلي لها، وأن موالاتها الظرفية للولي الفقيه في إيران قابلة للتغيير باتجاه ملاذات مرجعية أخرى كمرجعية السيد علي السيستاني مثلا، ناهيك عن أن تمويل هذه الميليشيات وحتى تلك التي نمت في سوريا هو عراقي المصدر لا يرتهن لتمويل طهران وإن كانت توالي في العقيدة والمذهب والفقه ولاية الفقيه.
ويقلل مراقبون للشأن اليمني من تأثر الحوثيين ماليا بأي تطور على سلوك النظام الإيراني. ويرى هؤلاء أن الظاهرة الحوثية ترعرعت داخل اليمن بشكل مستقل عن تطور الحالة الإيرانية في المنطقة، وأن ولادة التيار الحوثي مرتبطة بظروف داخلية قد يكون الرئيس اليمني الراحل علي عبدالله صالح وراء توفيرها خدمة لأجندة الحكم لديه.
ويضيف هؤلاء أن الحوثيين يمتلكون إمكانات مالية محلية تم تطويرها منذ نجاحهم في التمدد من معاقلهم في صعدة شمالا باتجاه عدن في الجنوب واستيلائهم على صنعاء كما على موانئ البلاد، ومنذ سيطرتهم الكاملة على كافة شبكات الاقتصاد والتجارة والموارد في البلاد، قبل أن تستعيد الشرعية اليمنية مدعومة من قبل التحالف العربي زمام المبادرة.
غير أن الحدث الإيراني لا يحمل تداعيات مالية سلبية متفاوتة الحجم على الميليشيات التابعة لإيران في بلدان المنطقة فقط، بل إن الأمر يتجاوز العامل المادي ليطال ذلك العقائدي الأيديولوجي الذي ما برح يسوق للنظام الإيراني بصفته نظام عدالة ويروج للولي الفقيه بأنه حاكم العدل الذي ينوب عن المهدي المنتظر وطاعته إجبارية، فيما يحرق المتظاهرون صوره في شوارع إيران.
ويجمع المراقبون على أن ارتباك النظام الإيراني في الأيام الأخيرة وتلعثمه في وصف ما يجري بين اعتباره حراكا داخليا على حد وصف الرئيس حسن روحاني أو مؤامرة خارجية يحيكها أعداء الخارج، تحوّل إلى زلزال بالنسبة لحزب الله والحوثيين وباقي ميليشيات المنطقة على نحو يفسر حالة الصمت والوجوم والاكتفاء بوصف المتظاهرين بأنهم “مثيري شغب”، ويكشف العجز عن استيعاب الصدمة وإدارتها.