تعرّض جملة من الفقهاء كالشاطبي وغيره إلى ذكر مقاصد الشريعة الإسلامية وتبعهم على ذلك جملة من أهل الفكر والقلم.
وأصل البحث فيها منطلق من الإعتقاد بأنّ وراء الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات مصالح تعود على العباد في دينهم ودنياهم وآخرتهم، ولا شك في وجود مقاصد وأغراض من الأحكام الشرعية الجزئية والكلية لامتناع العبث في ساحة التشريع كامتناعه في ساحة التكوين بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى.
ولكن البحث عندهم في هذا الباب كان عن المقاصد الكلية التي ترجع إليها تلك التشريعات بمقاصدها الجزئية، وقد أنهاها 8وهذا التعداد ناشئ من تتبّع أحكام الشريعة ومحاولات الفهم للأسباب الداعية إليها، فوجد هؤلاء الباحثون أنها ترجع بمجموعها إلى هذه المقاصد الخمسة.
ونحن نرى أن الحصر بهذه المقاصد الخمسة لا دليل عليه سوى استقراء موارد اهتمام الشريعة، وهو استقراء ناقص لا يفيد العلم واليقين بالعدد المذكور لعدم وجود ما يمنع عقلاً وشرعاً من إضافة أمور أخرى إليها كالحرية والعدالة وحقوق الإنسان والسلم العالمي من منظور إسلامي إذا ساعد عليها هذا الدليل الإستقرائي أو غيره بمعيار الإهتمام المتقدم .
السلم العالمي
ويمكن القول بأن الإصلاح بين الناس الوارد في كثير من النصوص الدينية يؤسس لقاعدة السلم بين عموم الناس شعوباً ودولاً، وهي المعبّر عنها بالسلم العالمي، لأن الدعوة إلى الإصلاح بين الناس تتضمن الدعوة إلى فض النزاعات بينهم وإقامة السلم والعدل فيما بينهم.
وقد جاء ما يشير إلى قاعدة السلم هذه في الكثير من الآيات، منها: قول الله تعالى في القرآن الكريم {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافّة} البقرة:208، ومنها: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}الحجرات:13، ومنها الآيات الكثيرة الآمرة بالعدل بين الناس والإصلاح بينهم كما في قوله تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً} (النساء:114) وقوله تعالى {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} النساء:،58 ومنها الآيات الناهية عن الظلم والبغي والعدوان.
وفي الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام لأبي أيوب الأنصاري (قال: ألا أدلّك على صدقة خير لك من حمر النعم؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: تصلح بين الناس إذا تفاسدوا وتقرب بينهم إذا تباعدوا)، (والمهاجر من هجر السوء والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة عبدٌ لا يأمن جاره بوائقه)، (المسلم من سلم الناس من يده ولسانه، والمؤمن من ائتمنه الناس على أموالهم وأنفسهم) والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
ومن الواضح أن هذه التشريعات لا تخصّ المسلمين بعضهم مع البعض الآخر، بل هي شاملة لكل مكوّنات المجتمع من المسلمين وغيرهم، وهي تخاطب المسلمين بالإلتزام بهذه الخصال والأحكام سواء كانوا في ديارهم أو في ديار قوم آخرين، باعتبار ورود كلمة الناس في بعض تلك الأحاديث وكلمة الجار المطلقة وغير المقيّدة بدين أو مذهب.
ولا شك في أنّ هذا النحو من التعاليم يصنع تربية تؤسّس لعلاقات تقوم على السلام والوئام بين مختلف المجتمعات، ويكشف عن أنّ السلم في الشريعة مقصد من المقاصد وغاية من أسمى الغايات، بل يمكن القول بأنّ السلم العام بين البشر يشكّل الحاضنة لكل المقاصد والغايات الأخرى، فإن الغاية من تعدّد الخلق وتنوعهم كما في الآية السابقة الذكر هي التعارف بين البشر وهو يعني التواصل في ما بينهم، ولم يجعل الله الغاية من التعدد هي التحارب بين الشعوب والقبائل، فلم يقل فيها (لتحاربوا) وإنما قال فيها (لتعارفوا) ويضاف إلى ذلك ما دلّ على تكريم الانسان كقوله تعالى {وكرّمنا بني آدم} الإسراء:70 وقوله تعالى {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}الأنبياء:107 وما دل على أن الرسول لم يبعث لعّاناً وأنه بعث ليتمّم مكارم الأخلاق.
السلم هو القاعدة والحرب إستثناء
إنّ هذه النصوص الدينية المتقدمة من الآيات المحكمة والأحاديث الصريحة تدلنا بوضوح على أن الشريعة تؤسس لقاعدة السلم بين الناس وأن الحرب هي الإستثناء، وأن ما يسمى بدعوة الجهاد إلى الحرب ينحصر بالجهاد الدفاعي، وليس جهاداً لفرض الدعوة الدينية على غير المؤمنين بها،كما يستفاد من قول الله تعالى {لا إكراه في الدين} البقرة: 256.
ومما تقدم يظهر لنا أن الإسلام شرّع الحرب في حالة الدفاع عن النفس وهو ما يسمى عند الفقهاء بالجهاد الدفاعي، فالإسلام يرفض العدوان والتوسّع وهو في الأصل يدعو إلى السلم كما جاء في قوله تعالى {يا أيها الذين آمنو ادخلوا في السلم كافه} البقرة 208- ويدعو إلى العيش بسلامٍ وعدلٍ مع الآخرين الذين لم يعلنوا الحرب عليه كما جاء في قوله تعالى {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين}الممتحنة:8، {إن الله يأمربالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلّكم تذكرون} سورة النحل: 90، واعتبر الإسلام أن الاعتداء على حياة الفرد اعتداء على الإنسانية جمعاء كما جاء في قوله تعالى {من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا} المائدة:32-.
وحدة الأمة
ولذلك ذكرنا قبل سنوات عدم وجود المانع من أن تكون وحدة الأمة أيضاً مقصداً من مقاصد الشريعة الأساسية باعتبار شدّة اهتمام الشريعة بها كاهتمامها بالسلم بين الناس وحفظ النفس وحفظ المال وسائر المقاصد الأخرى المذكورة، كما يستفاد من نصوص عديدة، وهذا مما يجعلنا نعيد النظر في كثير من الأحكام التكفيرية التي تقسم المسلمين شيعاً وأحزاباً .
وقد غدا الفقه المقاصدي منهجاً عند كثيرين في المباحث الفقهية، وهو يساعد على تجاوز منهج التّعبّد بحرفية النصوص من أجل الوصول إلى الجوهر والمضمون. ولعلّ هذا الذي ذكرناه هو ما يقصده بعضهم من التعبير عند طرح رواية صحيحة سنداً بحسب الظاهر بأنها مخالفة لروح الشريعة تارة، وبأن العمل بها مستلزم لنقض غرض الشارع لها تارة اخرى، فإن روح الشريعة وغرض الشارع هي عبارة عن المقاصد والغايات والأهداف التي يراد تحقيقها والوصول إليها وهو لا يكون بتشريعات مخالفة لها، فإن العاقل لا يعاكس أهدافه ولا يتخلّى عنها! فكيف بشريعة الله خالق العقل والعقلاء؟!.
ويبقى أن يقال بأن التركيز من قبل العلماء والمفكرين على توسعة مقاصد الشريعة وعلى اعتبار السلم بين البشر من مقاصدها ينعكس إيجابياً على ثقافة السلم، وهذا ما يعمل له منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة بتوجيهات وتعليمات العلامة الكبير الشيخ عبد الله بن بيه حفظه الله وشكر جهوده ومسعاه، وبثقافة السلم هذه تنحسر ثقافة التطرف والإرهاب، وتظهر الحقيقة الناصعة لصورة الإسلام التي أساء إليها وشوّهها الإرهابيون الذين يرتكبون جرائمهم باسم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
(السيد علي الأمين)