ما آلت إليه الثورات في مصر وتونس وليبيا خلق حالة من الإحباط في النفوس المتعطشة للتغيير. فقد انتهت الانتخابات التشريعية الأولى في هذه البلدان الثلاثة إلى فوز الحركات الإسلامية بأغلبيات متفاوتة. هذا فضلاً عما يحصل في سوريا من تزايد في نفوذ الحركات الأصولية المتشددة، وما سبق أن حصل في اليمن بعد انتهاء الثورة بتسوية أدنى مستوى من خواتيمها المرجوّة أو المفترضة أو المتخيّلة.
بعض الإحباط سبق عمليات الاقتراع، بل هو ظهر متزامناً مع الثورات التي عيب عليها خروج الثوار من المساجد واستخدامهم شعارات مستلهمة من تراث الإسلام السياسي. وتعزز هذا الإحباط لأن الهدف الافتراضي من الثورة هو التخلص من نظام الاستبداد الوراثي إلى نظام يتم فيه تداول السلطة عبر الانتخابات الحرة. غير أن الاستبداد عاد مرة أخرى، ولكن، من خلال صناديق الاقتراع هذه المرة، ما خلق شكوكاً لا حدود لها بالديمقراطية وآلياتها وطرق تطبيقها ونتائجها، وطال ذلك الربيع كله ومبرراته من حيث المبدأ والأساس. ووصلت المقارنة حدوداً غير منطقية لدى من دفعته شكوكه إلى مناصرة الأنظمة القديمة ضد الثورة، بذريعة أن هذه الثورات لا يمكن أن تكون ذات أهداف نبيلة إن هي كانت مدعومة من أنظمة الامبريالية العالمية وأعوانها المحليين. الإحباط شعور طبيعي عند من احتفظ لنفسه بصورة عن الثورة نقية غير ملطخة بدم أو جريمة أو شكل من العنف، ومتطابقة فحسب مع تلك الموجودة في مخيلة ملائكة التغيير والإصلاح والتجديد. وهو طبيعي أيضاً عند من يعتقدون أن الثورة عملية بسيطة تنقل نقلاً ميكانيكياً المجتمع من حال إلى حال، ولا يرون فيها مخاضاً، يشبه كل الولادات، مليئاً بالآلام، أو من ترسخت في أذهانهم صور عن الثورة تشبه صور الانقلابات الفوقية التي تشبّهت بالثورات، ونماذجها كثيرة في عالمنا العربي. وهو طبيعي أيضاً عند من يفهم الديمقراطية فهماً مغلوطاً أو على الأقل ملتبساً. الثورة الفرنسية التي أطلقت شرارة الديمقراطية ، بمعناها الحديث لا بمعناها اليوناني، احتاجت إلى قرن ونصف القرن، لتأخذ شكلها شبه النهائي مع نهاية الحرب العالمية الثانية. خلال تلك الفترة الطويلة تم اختبار صيغ كثيرة من الاقتراع، كان أولها حصر الحق في إبداء الرأي والتصويت بعدد محدود من "المواطنين"، من الذين يدفعون "الضرائب" ويتمتعون بمستوى من "المعرفة". ثلاثة معايير: مواطنية، ضريبة، معرفة. على أن أهمها المعيار الثالث، وهو مرتبط ارتباط علّة بمعلول، بحقوق الإنسان التي نصّت عليها الشرعة في أواخر القرن الثامن عشر وتكرّست في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة. من بين هذه الحقوق، حق المعرفة والعلم، والحق في الحرية، حرية الإنسان الفرد، وهي حقوق لا تصان إلا بقوة القانون و دولة القانون، أو ما عرف بدولة الحق (هيغل). الثورات المزعومة، بعد الثورة الفرنسية، عطلت الديمقراطية وشوهت صورها، بدعوى أولوية المساواة الاجتماعية والطبقية على المساواة أمام القانون، وكان مدخلها إلى التعطيل إلغاء حرية الإنسان الفرد، إما بتثبيت انتماءاته الطبيعية الأهلية (العشيرة، العائلة، المذهب، الطائفة، أو الحزب الذي يشبه الطائفة، أو النقابة التابعة لمذهب أو طائفة)، بحيث أن الاختيار لم يعد حراً لا في الانتماء السياسي ولا في صناديق الاقتراع. إن لم تكن الشروط المثالية للانتخابات متوافرة، فهل ننقلب على نتائجها؟ هذا سؤال طرحه فوز الإسلاميين في الانتخابات البلدية في الأردن في السبعينيات وفي الانتخابات التشريعية في الجزائر بعد ذاك التاريخ، وهو مطروح اليوم على ضوء وصول الإسلاميين إلى السلطة عن طريق الاقتراع في مصر وتونس. تعدّدت الأجوبة المغلوطة على هذه المعضلة. من جواب السلطة الجزائرية التي توسّلت أساليب غير ديمقراطية للوصول إلى السلطة، ثم قاتلت الإسلاميين تفادياً لقيام نظام غير ديمقراطي، إلى جواب المشكّكين بالديمقراطية باعتبارها نتاجاً للحضارة الرأسمالية وللنظام العالمي الامبريالي، وما بين الجوابين سلوك اليسار والحركة القومية العربية الذي عطّل الديمقراطية على امتداد القرن العشرين، أو سلوك الأنظمة كلها الذي ساهم في تعميم نسبة الأمية من ثمانين في المائة من سكان السودان واليمن إلى عشرين بالمائة من سكان لبنان (إحصاءات الأمم المتحدة). التمسك بالخيار الديمقراطي هو السبيل الوحيد للتخلّص من نواقص الديمقراطيّة، شيئاً فشيئاً، عن طريق تأمين شروطها المثلى: تعميم المعرفة وصون حق الفرد في الاختيار الحر. الطريق طويلة ووعرة. وهي وحدها الاتجاه الإلزامي للتخلّص من أنظمة الاستبداد، بل هي جزء من سيرورة الثورة المستمرة.الديمقراطية والثورات العربية : محمد علي مقلد
الديمقراطية والثورات العربية : محمد علي...محمد علي مقلد
NewLebanon
مصدر:
لبنان الجديد
|
عدد القراء:
328
عناوين أخرى للكاتب
مقالات ذات صلة
ديوان المحاسبة بين الإسم والفعل ( ٨ ) سفارة لبنان في...
الشاعر محمد علي شمس الدين يترجل عن صهوة الحياة الى دار...
ديوان المحاسبة بين الإسم والفعل (7) سفارة لبنان في...
ديوان المحاسبة بين الإسم والفعل (6) سفارة لبنان في المانيا...
65% من المعلومات المضللة عن لقاحات كوفيد-19 نشرها 12...
لبنان: المزيد من حالات وارتفاع نسبة...
ارسل تعليقك على هذا المقال
إن المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس بـالضرورة سياسة الموقع
© 2018 All Rights Reserved |
Powered & Designed By Asmar Pro