استبق النائب وليد جنبلاط إعلان الرئيس سعد الحريري دعم ترشيح ميشال عون لرئاسة الجمهورية. التقط الإشارات، وأوضح موقفه حيال التسوية الكبرى. كان ذلك تحولاً كبيراً في موقف البيك. وهذا ما أوضح المسار الذي سيسلكه الحريري. كان جنبلاط حينها يعتبر أن التسوية أكبر من أن تُعارض أو تُعرقل، خصوصاً بعد دخول السعوديين على خطّ مباركتها. حتى جلسة الانتخاب في الواحد والثلاثين من تشرين الأول 2016، كان جنبلاط يتمتع بدور "بيضة القبان". وبعدها بدأ الدور بالتراجع شيئاً في شيئاً.

بدّلت تحالفات التسوية أدوار "أركان الطائف". قرأ فيها البعض استهدافاً متعمّداً لهم، ظهر ذلك في تشكيل الحكومة، وفي قانون الانتخاب، الذي شكّل رأس حربته الوزير جبران باسيل، والذي اشتهر بعبارات وتسريبات تستهدف حصراً أدوار "الترويكا"، في مقابل سعيه لتعزيز مبدأ الثنائية بين التيار الوطني الحر وتيار المستقبل. من دون الخروج من تحت سقف حزب الله، وبالاستناد إلى التقارب مع القوات اللبنانية في الربع الأول من العام 2017. كان هدف الثنائي الجديد بتحجيم دور جنبلاط والرئيس نبيه بري، والحدّ من فعاليتهما.

لم يستطع ركنا التسوية تحقيق التغيير الجذري، ولا كسر التوازنات اللبنانية الثابتة، رغم مجاهرة باسيل في ذلك، سواء أكان بقوله إنه لن يسمح بقانون انتخابي يسمح لجنبلاط بالحصول على نائب مسيحي واحد، أو خلال زيارته الشوف قبل أشهر، واعتباره أن المصالحة لم تنجز. حصر باسيل مع نادر الحريري صوغ الخيارات السياسية للعهد في ما بينهما. عززا ذلك في مزيد من حصار جنبلاط وغيره. إستناداً إلى التحالف الهجين الذي ولد غداة ولادة التسوية، ظهر التراجع في دور البيك وعين التينة. ليبدو المشهد وكأن هناك صفاً أول حديث الولادة، مقابل تراجع الأركان إلى الصف الثاني.

لولا التوازنات اللبنانية، لكان قانون الانتخاب شكّل مدخلاً إلى حروب إلغاء سياسية واسعة بحق كثير من القوى، في مقدمها جنبلاط. في المقاربة الصريحة لهذا الملف، كان هدف باسيل تحجيم دور جنبلاط بكتلة لا تتخطى الثلاثة نواب. لكن ذلك لم يمر. هادن جنبلاط، وانتظر على ضفّة الصيغة اللبنانية التي لا تسمح بإلغاء أحد، ردّت سهام باسيل إليه من حلفائه، فيما كان هناك من يراكم تسجيل أخطائه في الداخل والخارج، لاستعادة اللحظة. فتحوّل جنبلاط من عرّاب الثورات والمواجهات، إلى مصلح سياسي على طريقة أبو ملحم. فضّل الهدوء وأسدى النصائح. وفي كل مرّة تعرّض فيها لسهم، كان يلجأ إلى القصف بالتغريدات، لافتقاد عامل المبادرة السياسية.

لم يشك جنبلاط للحظة في أن العلاقة مع العهد ستكون بخلاف ما هي عليه، لكنه كان يستبعد أن يكون الحريري في ما هو عليه. من قانون الانتخاب إلى إشكال مجلس الشيوخ، وما اعتبره جنبلاط طعنة وخروجاً على الطائف من قبل الحريري الذي وافق باسيل على أن تكون رئاسة المجلس لمسيحي بدلاً من درزي. بهدوء أجّل جنبلاط هذا المشكل المحتوم، واستطاع تأجيل وقوعه. لكن ردوده الأساسية كانت عبر منصّة تويتر، حيث ساهمت تغريداته في إشكال وصل إلى الشخصي مع الحريري، فكان أول اشتباك كلامي وسياسي بين الرجلين، إثر تغريدات لجنبلاط تناول فيها وضع الحريري المالي، وإفلاس شركته، لكنه عاد وأصلح الأمور.

يعرف جنبلاط كيفية التقاط اللحظة، انكفأ لأشهر، وما إن اطلّت الأزمة برأسها حتّى قابلها بإطلالته. استشرف التصعيد السعودي، وما سيشكّله من عقبات أمام العهد وتسوية الحريري الجديدة. وجد الحريري نفسه محرجاً، فكان بحاجة إلى حليف يرتكز عليه للتبرير أمام السعوديين. تولى رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي المهمّة، فحصل الاجتماع الثلاثي في كليمنصو مع الحريري وبري. حاك جنبلاط مخرج الحريري من مأزق التصعيد السعودي، لكنه أيضاً عرف كيفية المراكمة على ذلك. كانت صورة كليمنصو الظاهرة، بأنها رسالة ثلاثية من ترويكا التسعينات، إلى العهد الجديد ووزير خارجيته، بأن التمادي أصبح ممنوعاً، ولا بد من الالتزام بالحدود.

منذ ذلك اللقاء، تغيرت قواعد اللعبة. أجل جنبلاط مأزق الحريري، وفيما بعد عمل على تأمين المخرج منه، حين توجه أمين سرّ بهاء الحريري إلى كليمنصو، كان الرئيس الحريري لا يزال في بيروت، طرح صافي كالو ما طرحه، فرفض جنبلاط واعتبر أن ما يجري ضرب من الجنون، ثبّت البساط تحت قدمي الرئيس الحريري، وأوصل رسائل بأن هذا التفكير يؤدي إلى إنهيار حلفاء السعودية في لبنان. طوال أزمة استقالة الحريري، لم يلجأ جنبلاط إلى كثرة المواقف، لكنه استعاد نشاطه كما كانت حاله في 14 شباط 2005، فتح اتصالاته بكل الاتجاهات، مع عين التينة وحارة حريك، وبعبدا وإلرياض وغيرها. فكان الأساس في منع الإنقلاب على الحريري، وفي عدم المواجهة إلى أقصى الحدود مع السعودية.

انقلبت الآية في الربع الأخير من السنة، عاد جنبلاط إلى دوره كمحرك محوري وأساسي على الساحة. زاره باسيل وعقيلته في لقاء عائلي حميم. طوى اللقاء "موقف باسيل في الجبل"، ومهّد لفتح صفحة جديدة، كذلك تعمّد التحالف بينه وبين الحريري. ويعمل إلى جانب حزب الله على إيجاد مخرج لازمة بعبدا- عين التينة الأخيرة. تحوّل جنبلاط في 2017، من حاجة خصومة إلى حاجة تحالفية. تيار المستقبل يريد التحالف معه في بيروت، والجبل والبقاع الغربي. الحلف مع حركة أمل ثابت، ومع حزب الله قائم. يريد التيار الوطني الحر استمالته في الشوف وعاليه لمحاصرة القوات. فيما القوات تريد تعميد التحالف معه. وهو ينطلق من أنه حاجة للجميع، حتى يصحّ قول أحدهم بأنه إذا ما أدار وليد جنبلاط ظهره، سيركض الجميع لرؤية عينيه. في العام 2018، سيستعيد جنبلاط دور بيضة القبان. ما سيعزز ذلك حصول حزب الله على اكثرية في البرلمان. حينها كتلة جنبلاط ستكون ضرورة للجميع، لحزب الله للحصول على أكثرية الثلثين، ولمعارضيه لمنع ذلك وعرقلة ما سيرمي إليه الحزب.