تلك الحرب كانت فعلاً الأولى لجهة اتساعها الجغرافي الذي منحها تسمية «العالمية»، وكذلك لجهة الاستخدام الموسّع والمتطور للأسلحة التي أنتجها العصر الصناعي. لكنْ بما أن الضد بالضد يُذكر، فهي افتتحت، لأول مرة في التاريخ، تحول العالم إلى جسم عضوي واحد ومتماسك، انطلاقاً من بؤرته الصناعية الأوروبية. وهذا ما كان بالضرورة من نتائج الاستعمار بإيجابياته وسلبياته في آن واحد. فإذا كان العنف، وصولاً إلى الحروب على السكان «الأصليين» أو حروب التنافس بين المستعمرين على المستعمرات، أول السلبيات وأفدحها، فإن الإيجابيات تشمل امتداد أوروبا، بإنتاجها الاقتصادي والتقني الأدائي، كما بأفكارها، إلى أقصى زوايا كوكبنا.
بيد أن الحقبة التي افتتحها نشوب الحرب العالمية الأولى، ومن ثم نهايتها، يمكن وصفها بنهاية الإمبراطوريات وعصرها. فلم يكن من الصدف أن الإمبراطورية الهبسبورغية النمساوية المجرية ولت إلى غير رجعة لتحل محلها الدول -الأمم الصغرى التي تفرعت عنها في أوروبا الوسطى. إلى ذلك، ففي الجنوب انهارت الإمبراطورية العثمانية بعد عقود من عيشها المترنح بوصفها «رجل أوروبا المريض». وهنا أيضاً، بدأت تنشأ الدول -الأمم برعاية الانتدابين البريطاني والفرنسي بديلاً عن سلطنة بني عثمان. أما إلى الشرق فتداعت إمبراطورية عريقة أخرى هي دولة آل رومانوف في روسيا، إلا أن الثورة البلشفية التي كانت قد انتصرت قبل عام واحد، ما لبثت أن أعادت إنتاج تلك الإمبراطورية بقالب مختلف هو الذي عُرف بالاتحاد السوفييتي. وبسبب ذلك تم تجميد التاريخ في هذه الإمبراطورية الأخيرة إلى أن تفكك الاتحاد السوفييتي، في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، فتفجّرت تباعاً الولادات المتأخرة للدول والقوميات المكبوتة.
لكن التاريخ –على ما تعلمنا التجارب الكثيرة– يخلق المشاكل فيما هو يحلها. وفي هذا المعنى، أتت نهاية الحرب العالمية الأولى وما أعقبها من صلح فرساي لتؤسس لانفجارات كبيرة لاحقة. ففي أوروبا كان التعاطي مع ألمانيا التي هُزمت في الحرب الأولى مثلها مثل الإمبراطورية الهبسبورغية، حاداً ومهيناً، على النحو الذي سمح لهتلر وحزبه النازي بالاستثمار في الشعور الألماني بالمهانة والإذلال مع ما رافقهما من انهيار اقتصادي مريع.
وفي الشرق الأوسط أنشئت كيانات بدا لاحقاً أنها لا تتناسب مع الرغبات التي حاصرتها من موقعين: موقع الانشداد إلى التكوينات القرابية الصغرى (طوائف، إثنيات.. إلخ)، وموقع التعلق بالروابط الإمبراطورية القديمة التي تكنّت مرّة بالإسلام ومرّة بالعروبة. ولئن نشأت أنظمة توسّع الفوارق الموروثة عن التاريخ وعلاقاته بدل أن تعمل على تضييقها، كان لإنشاء دولة إسرائيل في عام 1948 أن فاقم التناقضات جميعاً في منطقة حديثة النشأة بالمعنى السياسي.
لقد استدعت المشكلة الألمانية نشوب حرب عالمية أخرى (1939 –1944) بلغت كلفتها هذه المرة 50 مليون قتيل ودماراً من نوع فلكي. أمّا منطقتنا، بحروبها ونزاعاتها الكثيرة والمتقطعة، فلم تستقر حتى اليوم على قرار. وربما كان لظاهرات كتكاثر أنظمة الاستبداد العسكري ونشأة «داعش» في العراق وسوريا، واستعصاء التغلب على النزاع الإسرائيلي الفلسطيني (وجزئياً العربي)، «فضل» تنبيهنا إلى المسافة التي لا تزال تفصلنا عن الاستقرار في الدول الأمم الحديثة والقابلة للحياة.
لقد انقضى قرن على انتهاء الحرب العالمية الأولى حُلت خلاله مشاكل كثيرة فيما بقيت وتعاظمت مشاكل أخرى. وقد يكون من المستبعد اليوم أن تنشب حرب «عالمية»، لكنْ من شبه المؤكد أننا نعيش، وسوف نعيش، حروباً متفاوتة الطبيعة والحجم، بينما يبدو العالم أضعف من أي وقت سابق في قدرته على وقفها.