وجه حسين يوسف... وجه العام. تلك هي المعادلة باختصار. من لا يذكر هذا الأب الذي حمل وجعه ثلاثة أعوام وتحملّ بايمان وصبر، يكاد لا يذكر شيئاً من الـ2017.
من منا لا يذكر عبارته الشهيرة: " كنت أفضل لو بقي مصير ابني محمد مجهولاً، على ان يعود جثة بهذه الطريقة".
تلك هي المعاناة التي طبعت عام 2017. وتلك هي حكاية العسكريين الذين خطفوا لدى "داعش" وعادوا جثثاً الى اهلهم.
حسين يوسف، والد العسكري محمد، كاد ان يتحوّل رمزاً او بالاحرى شخصية العام 2017. ذاك الوجه النحيل الذي اختصر كل الآلام. في عينيه، في كلماته الهادئة والراقية، التي لم تخرج مرة عن السياق الاخلاقي، جسّد حسين يوسف الرمز والعناد، على الرغم من صعوبة الوضع ووجع الحرقة في القلب.
1 كانون الاول 2015... صباح ذاك اليوم، أطلق العسكريون الـ16 الى الحرية من نير الاسر عند "النصرة". 487 يوماً من الأسر انتهت "بعرس الحرية"... إلا ان عسكريين آخرين كانوا لا يزالون مجهولي المصير، ومن بين هؤلاء كان محمد يوسف، نجل حسين...
صبيحة ذاك اليوم الشتوي، احتفل حسين يوسف الى جانب الاهالي. تقاسم مع كل أم وأخت وزوجة، فرحة القلب...ضحك، بكى، وبقي ينتظر...
بين آب وايلول
في 27 آب 2017... تبدّل المشهد. ذاك الاحد المشؤوم. وصل الخبر الذي لم يرد حسين يوسف يوماً سماعه: العسكريون الذين اختطفوا عند "داعش" تمت تصفيتهم. وحده وجه يوسف باح بكل شيء. اراد الا يصدّق. انما وجهه كان يعكس كل الالام. كان يواسي الامهات اللواتي صدمن وعبرن بالنحيب...
في 31 اب، اي بعد أيامٍ على الخبر الحزين، نشر يوسف رسالة، وصفت "بالمؤثرة"، وجّهها الى ولده الشهيد محمد.
توجه اليه قائلا: "كنتُ عموده الفقري، وكنتُ أشعر أنه، لو انطويتُ أو ارتخيت، سينهار. كان ينبغي لي أن أبقى واقفاً، أن أبقى جاهزا وحاضراً، طوال ثلاث سنوات. 1120 يوما بالتمام والكمال، بساعاتها ودقائقها ولياليها وثوانيها. أبقى منتصباً ليعلم أني هنا، دائما، أبدا، إلى أن يعود، وليُريهم أنه يملك "ظهرا"، وأن هذا الظهر هو أبوه (...) كان يجب أن أُري خاطفيه السود أن لابني ظهرا (...)".
1120 يوما، حمل حسين يوسف " صليبه". كان يعتبر دوما ان ما حصل معه مجرد "واجب". في احدى المرات، قال لـ"النهار": "كل ما مررنا به نعتبره واجباً وطنياً رغم كل المرارات والجراح".
ذاك "الظهر" الذي حمل كل الاعباء... حتى يوم حمل رفات ابنه، بقي متماسكا، عنيدا لا يتزحزح. هو قال: " أحكي وأصرّح وأظهر في وسائل الإعلام، وأنا عيني على محمّد، علّه يلمحني بطريقةٍ ما، علّ جرعة حبّ صغيرة تصل إليه في مطهره ذاك، علّه يبلّ ريقه بخبر يأتي من عالمه، من كوكبه الصغير".
وفي احدى المرات، قال: " اعذرونا يمكن تعبنا شوي، بس ما رح نيأس". هكذا، هو حسين يوسف. يكابر. يعاند. ويبقى يتألم وحيدا.
8 ايلول 2017. تاريخ لن ينساه. انه يوم التشييع الرسمي للشهداء العسكر.
في اليرزة، وقف يوسف مع افراد من عائلته، ليودّع محمد. الزوجة، الابن حضرا ايضا. وعلى هامش التشييع، وجه يوسف رسالته المقتضبة كالمعتاد. قال: "أكثر من شخص وطرف قادرون ان يساعدونا على كشف الحقيقة... لنحاسب كل انسان ظلم العسكريين".
... ولا يزال يوسف ينتظر الحقيقة. منذ الايام الاولى لنصب الخيمة في وسط بيروت، واظب يوسف على الحضور. لم يترك تحركا، الا وكان في صفوفه الامامية. لم يتخل عن تظاهرة او اعتصام او احتجاج، ولم يتخل مرة عن هدوئه في كل موقف وتصريح. كان الناطق باسم الاهالي، وكان الاقرب الى قلوب الاهالي ... واللبنانيين جميعهم.
في رسالته الى ابنه، قال حسين: " آخ يا محمد. آه يا رجلي الصغير. أتأمّل في الصورة التي نشروها لك ولرفاقك، ومن خلفكم يمتدّ علمهم الأسود المقيت. أتأمل في عينيك خلف النظارات، في ملامح وجهك، في رأسك، شعرة شعرة، في يديك، في أصابعك المتباعدة. أقول ربما ضمّنتَها رسالة سرّية ما، إشارة ما. أنت في المقدّمة، يا رجلي الصغير، ناظراً إلى الكاميرا وعاقداً يديك. جسدك متراخ بعض الشيء، وذقنك قد نبتت. لا أدري كم من الوزن قد فقدت. لكن، لا بأس، يا بطلي الصغير، نعوّضها سريعاً بعد عودتك. لكن فقط لو أمكنني الوصول إليك للحظة، لشمّك... لضمّك... "
... اليوم... ونحن نقفل اليومين الاخيرين من عام 2017، لن يستطيع حسين يوسف بالتأكيد ختم العام، ذاك العام الثقيل والمثقل بالحزن... هو بالتأكيد ليس عاما سعيدا...الاخطر ان تكون الحقيقة دفنت ذاك اليوم من "الجمعة الحزينة" في الثامن من ايلول من عام 2017... يوم دفن العسكر...
والاخطر ان تصدق تلك العبارة الشهيرة: "ستنتهي الحرب ويتصافح القادة... وتبقى تلك المرأة تنتظر ولدها الشهيد"... وسيبقى حسين يوسف يصرخ: " اخ يا محمد"...