النهر الثالث في بلاد الرافدين "كاظم الساهر" يصرح في نهار الاثنين 27 كانون الأول / ديسمبر 2004 انه يقوم بالتحضير لأوبريت "ملحمة جلجامش" لنستمتع بها ونفتخر بها كونها تمثل الارث الحضاري لبلاد وادي الرافدين والشرق الادنى القديم، والذي تستغرق مدة عرضه ما يقارب الثلاث ساعات. وقال الساهر في مقابلة هاتفية مع إذاعة عمان أنه أنجز الساعة الأولى من العمل وسيبدأ بتحضير الدقائق الأولى من الساعة الثانية في بداية العام 2005،
إلا أنه عبر لاحقا عن ندمه للإعلان للجمهور عن هذا العمل لأنه ما زال بحاجة إلى الكثير من الوقت لإنهائه،نظرا للقيمة التاريخية والابداع الفني لهذا العمل ،الذي سيكون باكورة اعماله ويختم به مسيرة ابداعه الفنية، خمسة عشر سنة ولا تزال الكلمات تتزاحم وتتصارع تريد ان تخبر عن ما في مكنونها ،وعن مايدور في مخيلته على مشروع ملحمة "جلجامش" وقال بانه ينوي اكمالها خلال ثلاث سنوات لصعوبتها وقيمتها الفنية العالية. هذه الموسيقى الاسطورية التي كتبها الشاعر المبدع "كريم العراقي" مقتبسا قصتها من الملحمة الخالدة ويقوم بتلحينها وانتاجها القيصر “كاظم الساهر “من المتوقع ان تكون مدة عرض الملحمة اكثر من ثلاثة ساعات متواصلة تحكي قصة جلجامش باسلوب شعري مسرحي بلحن وموسيقى اسطوريين.
اثني عشر دينارا/عراقيا كانت كافية لابن الموصل السامرائي لشراء القيثارة في عمر الاثني عشر/عاما وذلك بعد العمل المضني في مصانع النسيخ وبيع المثلاجات والكتب في شوارع بغداد .دنانير معدودة حملت المبدع "كاظم الساهر" من بيت اهله الصغير المتواضع المكون من عشرة ابناء بان يكون الفنان العربي الوحيد الذي غنى في "القاعة الملكية في بريطانيا" وهو الفنان الثاني في العالم بعد مادونا الذي حصل على "مفتاح مدينة سيدني". جلجامش الذي ينوي انتاجها عالميا ستكون لوحة فنية متكاملة عالمية ستحصد الجوائز القيمة وستخلد السامرائي في تاريخنا الحديث كما خلدت "جلجامش" في تاريخ الشرق الادنى القديم .
في مفهوم [التفاعل المدرحي]ومعناه الاجتماعي تعتبر “جلجامش” اهم ملحمة وجدت في تاريخ البشرية ، هي الركيزة الاساسية للإرتقاء الانساني الذي هو أساس “مادي – روحي “ وإن الانسانية المتفوقة هي التي تدرك هذا الأساس وتشيد به،هذا المفهوم في [التفاعل المدرحي] هو تحرر النفوس من البصائر العمياء ومن خرافات المبهمات وذلك بتفعيل البصائر البصيرة والولادة والعيش والحياة والنموّ والنضوج والسير والفعل والانتاج والابداع في النور ،لأن الانسان لا ولن يكون حراً الا في النور الذي يحرره من كل انواع الظلمات .
ملحمة "جلجامش"هي ملحمة سومرية شعرية مكتوبة بخط مسماري على 12 لوحا طينيا اكتشفت لأول مرة عام 1853 م في موقع أثري اكتشف بالصدفة ،وعرف فيما بعد أنه كان المكتبة الشخصية للملك الآشوري "آشوربانيبال" في نينوى في العراق ،ويحتفظ بالألواح الطينية التي كتبت عليها الملحمة في المتحف البريطاني. الألواح مكتوبة باللغة الأكادية وتحمل في نهايته توقيعا لشخص اسمه "شين ئيقي ئونيني" الذي يتصور البعض أنه كاتب الملحمة التي تعتبر أقدم قصة كتبها الإنسان،تم ترجمة الملحمة لأول مرة إلى الإنكليزية في سنوات تلت عام 1870 من قبل "جورج سميث" الذي كان عالم آثار متخصص في المرحلة الأشورية في التاريخ القديم والذي توفي عام 1876.
تبدأ الملحمة بالحديث عن "جلجامش"، ملك "أورك - الوركاء" الذي كانت والدته إله خالدا ووالده بشرا فانيا ولهذا قيل بان ثلثيه إله والثلث الباقي بشر،وبسبب الجزء الفاني منه يبدأ بإدراك حقيقة أنه لن يكون خالدا. تعد ملحمة "جلجامش" من اقدم القصص او الاعمال الأدبية التاريخة في رحلة البحث عن الخلود الذي استنتج في النهاية ان الخلود بالاعمال لا بالاعمار،هذه الملحمة الرافدية، أهم وأكمل عمل إبداعي أسطوري شعري، كتبت سطوره منذ العهد السومري في المرحلة الواقعة بين (2750و2350) قبل الميلاد عن الملك "جلجامش" وقد تشكلت حول شخصه باقة من الحكايات الأسطورية والبطولية، التي تسرد أخبار أعماله الخارقة، وسعيه المستميت إلى معرفة سر الحياة الخالدة.
تعتبر ملحمة "جلجامش " من المآثر الأدبية الكبرى وهي من دون شك اقدم ملحمة شعرية من بين ملاحم العالم ،والتي حصلت على شعبية بالغة ،وفي الغالب كانت الملحمة مهيئة للانشاد والقراءة في الاحتفالات وقد ترجمت هذه الملحمة إلى لغات عدة الفرنسية الإنكليزية الرومانية الدانماركية الجورجية الإيطالية العبرية ،ونقلها من اللغة الاكادية إلى العربية "دكتور نجيب إبراهيم ميخائيل"ويظهر ان شخصية "جلجامش" كانت محببة وذات شعبية ولقد تطورت هذه الملحمة في إبداعات شعرية منذ العهد السومري، ثم تلتها محاولات في العهود الأكادية والحثية والبابلية والحورية، وكان ظهورها بشكل كامل في نهاية الألف الثاني قبل الميلاد، وهي الصيغة التي كشفتها أعمال التنقيب الأثري من مكتبة قصر الملك «آشور بانيبال» في مكتبة نينوى.
لقد كتب عن هذه الملحمة دراسات لا تعد ولا تحصى، وأُشبعت نقداً وتمحيصاً ومعالجة، ومع ذلك مازلنا نتابع بين الحين والآخر دراسات جديدة عنها، ونقرأ روايات وقصص ومعالجات إبداعية مستمدة من وحيها، وأعتقد أن السّر في هذا الاهتمام والإعجاب يعود إلى أن هذه الملحمة التي مازالت تشخّص واقع الإنسان ومشكلاته الأبدية، التي يتمحور حولها السؤال الأزلي: ما الغاية من الحياة؟! ولماذا نموت بعد أن جئنا إلى ساحة الحياة ومشينا في دروبها ؟! وهذه الأسئلة لا إجابة قاطعة حولها..
مقطع من ملحمه جلجامش للشاعر الكبير : "كريم العراقي"
وغناء القيصر المبدع الاسطورة: "كاظم الساهر السامرائي"
كورال/ أنت الذي رأيتَ كل شيء
جلجامش/ نعم أنا
ـ يا مُرضيَ الشيوخ
يا فاتنَ الشبابِ.. يا شاغلَ النساءْ
أنت جمعتَ المجدَ والشهرة والرخاءْ
ـجلجامش_ نعم أنا..
يا من ترون نصفيَ المضيء
تعمّقوا في داخلي
حريقُ كل الأرضِ في مفاصلي
من منكم.. رأى بكاءَ قلبيَ المشتعلِ
من منكم.. يعيشُ ليلي ليلة واحدةْ
فمن أنا؟
أنا كرةٌ من نار
فما لها أيديكمُ الباردةْ
تهربُ من أنفاسيَ المتقدةْ؟
كورال/ أنتَ الذي ربحتَ كلَّ شيءْ
جلجامش/ أنا الذي خسرتُ دفءَ منزلي
وقبلة البنتِ، وضمة الولدْ
أنا.. أنا خسرتُ أغلى صديق
حبيبتي خسرتُها إلى الأبدْ
خسرتُ راحةَ البالِ أنا
خسرتُ أن أرقصَ في الأعيادِ بين فتيةِ البلدْ
خسرتُ كل ما أحبْ
هل يشتري خسارتي أحدْ؟
كورال/ أنت الذي ربحت
ربحتَ إعجابَ البشرْ
نافستَ شهرة القمرْ
بلغت ذروة الألقْ
جلجامش/ ربحتُ ثورة القلقْ
ربحتُ رهبة المغامرةْ
ربحتُ أن أكونَ هدفاً لأسهم الرماةْ
من حاسدينَ أو طغاةْ
مشكلتي.. ليست كنوزَ الأرضِ
ليست بليلٍ أحمر النزواتْ
لا الذهبُ البرّاقُ.. لا الجنسُ
لا الحاناتْ.. هيهاتْ
مشكلتي أرفضُ أن أموتْ
أبحثُ عن حياةٍ بعد هذه الحياةْ..؟!
لقد مزجت هذه الملحمة الحقيقي بالأسطوري، والواقع بالخيال، وكانت واقعيتها مزخرفة بالحكمة، وخيالها متسربل بالرمزية.. هي واقعية من حيث تناول الإنسان حياة وموتاً، وهي رمزية لأن أحداثها المفرطة ذات دلالات عميقة، وأسطورتها ذات مرامٍ بعيدة، ترمز إلى هدم الإنسان للحواجز التي تعيق تواصله مع أخيه الإنسان، وإلى الصراع بين "الخير والشر".
اختيار "كاظم الساهر "هذا العمل الجبار انه لتحدي كبير في عالم "الفن والادب "مجتمعين لان الأدب الحقيقي هو الذي يعالج ما يعجز عنه العلم، ويواجه أزمات الإنسان النفسية، ويداوي آلامه، ويضيء آماله.. من هنا يمكننا أن نعرف سر هذا الاهتمام العالمي بملحمة "جلجامش"التي تحلّق بنا في فضاءات بعيدة عن الواقع المأساوي، إلى عالم مثالي زاخر بالخير والحق والجمال...