"يعني لبنان الحريّة. هنا أعتقد ما أشاء، وأنشر ما أشاء، وأعلّم ما أشاء، وأخطب ما أشاء ..." رحم الرّبّ المفكّر الكبير شارل مالك الذي خطّ بقلمه دستور الحريّة في لبنان. أين لبنان اليوم من فكر شارل مالك؟ ذلك الذي سطّر ملاحم الحريّة في أرقى الدّساتير الأمميّة. فوضع "المادّة 18" من الشّرعة العالميّة لحقوق الإنسان التي على أساسها تُحكَم الحريّة بين الشّعوب. لكنّ شارل مالك أشار في تحليله عن لبنان الحريّة إلى الإساءة إليها بأربع طرق: الفوضى، والإباحيّة، والاستبداد، والانحطاط. وللأسف، لبنان اليوم غير لبنان شارل مالك بكثير. لأنّ الحريّة فيه مساءٌ إليها بهذه الطّرق مجتمعةً.
عندما يحارب فريق سياسيّ، ليس لسبب، بل لأنّه يريد الشّفافيّة في التّعاطي بالشّأن العام، والأكثر من ذلك، لأنّه ما تعاطى بهذا الشّان إلا انطلاقًا من هذه القاعدة والقناعة. بشهادة الخصوم قبل الحلفاء. من حيث إخضاع التّعيين في إدارات الدّولة إلى معايير وآليّة واضحة المعالم وغير مسبوقة منذ عقود، ونخصّ هنا ملفّ مجلس إدارة تلفزيون لبنان. لقد تولّت ثلاث هيئات الإشراف على تقديم الطّلبات، مجلس الخدمة المدنيّة ووزيرة الشّؤون الإداريّة ووزير الإعلام. وبعد إجراء كلّ ما توجّب على هذه الهيئات اختيرت ثلاثة أسماء ورفعت إلى مجلس الوزراء. وتوقّف الملف منذ ستّة أشهر. فضلًا عن معارضة ملفّ تلزيم بواخر الطّاقة لعدم توافق الشّروط مع دائرة المناقصات. إضافة إلى ملفّ الكسّارات وغيرها، فنقيض الشفافيّة يعني الفوضى. وهذه إساءة إلى الحريّة.
أمّا عندما ننظر إلى التّعاطي الاجتماعي من منظور ماديّ بحت، فنلاحظ مدى الانزلاق في الإباحيّة التي باتت ثقافة تتربّى عليها الأجيال الصّاعدة في لبنان. وفي ذلك شيء من الغلوّ حيث إنّ عمليّة تقليد الغرب تقتصر على ما هو سيّئ وإباحيّ فقط. يكفي أن نشاهد الإباحيّة التي تعرض على شاشات التّلفزة. وكم كتبنا في هذا المجال عن بعض البرامج المنحطّة وما من مجيب. أضف إلى ذلك، ظاهرة انتشار محال ألعاب الفيديو للميسر والتي بادرت إحدى البلديّات، مشكورة، إلى إقفالها لأنّها تروّج بطريقة غير مباشرة إلى مواضيع منحطّة كتعاطي المخدّرات والإباحيّة وغيرها، ناهيك بكونها، أي الميسر، من أخطر الآفات التي تضرب المجتمعات. إضافة إلى ظاهرة انتشار النّوادي الليليّة وسط الأماكن السّكنيّة وما تجرّه هذه المسألة من ضرب مفاهيم تربية القاصرين.
ويكفي أن ننظر إلى ما حاولت القيام به ثورة الأرز للتخلّص من الاستبداد الذي كان يمارس بحقّ فئة من اللبنانيّين على خلفيّة آرائها السياسيّة والفكريّة. وهنا يجب إعادة إحياء وتفعيل نصّ المادّة 19 من الشّرعة العالميّة لحقوق الإنسان. ولا نخفي سرًّا إذ نعلن خوفنا الدّائم من تجدّد هذه الحالة ولا سيّما أنّ هذا الفكر ما زال قابعًا في بعض مراكز القرار في لبنان والعالم.
واعتبر شارل مالك أنّ أسوأ هذه الطّرق هو الانحطاط إذ بحسب قوله لا نستطيع معالجته؛ في حين أنّنا قد نقدر على معالجة الثّلاث المذكورة آنفًا. وعوّل مالك على وقوف غير المنحطّين لمقاومة هذه الطّريقة. لكن المفارقة اليوم أنّنا بتنا أمام طريقة خامسة وهي: الاستغباء. وهذه الطّريقة تمارس يوميًّا على الشّعب اللبناني الذي يُراد له أن يصدّق كلّ شيء من دون أيّ اعتراض.
- على الشّعب اللبناني أن يصدّق بأنّ الحرب قد مضى على انتهائها أكثر من 27 سنة، ولبنان لا كهرباء فيه.
- على الشّعب اللبناني أن يصدّق بأنّ المليارات التي تُجنى من حديثي التّعاطي بالشّأن العام هي مجرّد إرث عن الآباء والأجداد.
- على اللبنانيّين أن يصدّقوا بأنّ قواهم العسكريّة والأمنيّة قاصرة وهم بحاجة إلى حماية من سلاح غير شرعي.
- عليهم أن يصدّقوا أيضًا أنّ قرار الحرب والسّلم الاستراتيجي يجب ألا يكون بيد الدّولة.
- على اللبنانيّين التّصديق بأنّ المسّ بالدّولة اللبنانيّة وكرامتها هي مسألة مزاجيّة ترتبط بالمصالح الخاصّة.
الطّريقة الخامسة التي يُساء إلى الحريّة بواسطتها لم تفُت شارل مالك إنّما كان احترام عقل اللبناني ما زال قيمة تحتلّ المراتب الأولى من سلّم القيم، لكن للأسف اليوم ضرب هذا السّلم من رأسه حتّى أخمص قدميه. وما نحن بحاجة إليه ثورة نسّاك حقيقيّة تنشر النّهج النّسكي بالتّعاطي بين اللبنانيّين على خطى الآباء والأجداد الذين استطاعوا الحفاظ على لبنان والدّفاع عنه، تحت سياط الجلّادين ورِماح المحتلّين، بمعاولهم وبمجامرهم فقط. "الصّراع الحقيقي اليوم هو بين المؤمنين بالحريّة الشّخصيّة الكيانيّة المسؤولة الأصيلة، وبين الذين يرتعون في ظلّ هذه الحريّة بقصد استخدامها لمآربهم الشّخصيّة." والكلام لمالك هنا. لكن هل المؤمنون بهذه الحريّة ما زالت صدورهم تنبض بنبضاتها؟ وهل هم مستعدّون لدفع المزيد من الأثمان للحفاظ عليها إرثًا مقدّسًا؟