للأسبوع الثاني على التوالي، يحتلّ الخلاف بشأن المرسوم الذي وقّعه الرئيسان ميشال عون وسعد الحريري لمنح ضبّاط ما يسمى «دورة عون» أقدمية سنة، المشهد السياسي اللبناني، مع عودة الاشتباك بين الرئيس عون والرئيس نبيه برّي إلى ما قبل أزمة الحريري.

موقف عون من بكركي خلال قداس الميلاد، وتأكيده على إصراره على المرسوم، ودعوته المعترضين إلى اللجوء إلى القضاء، لم يكن ليمرّ من دون ردّ من برّي، الذي تعمّد أمس عقد لقاءٍ للصحافيين، رد خلاله على كلام عون بقسوة، موسّعاً النقاش في ردّه من أزمة المرسوم إلى تناول اتفاق الطائف برمّته.
غير أن برّي، الذي ذكّر بالمادة 54 من الدستور حول ضرورة توقيع الوزير المختصّ أي مرسوم يقع ضمن اختصاصه، لم ينسَ توجيه الرسائل إلى الحريري، وخصوصاً تجاوز توقيع وزير الداخلية، والاكتفاء بتوقيع وزير الدفاع. وهذه الإشارة من رئيس المجلس النيابي، تتعدّى التذكير التقني بتجاهل تواقيع الوزراء المختصين، إلى ملاحظة في صلب اتفاق الطائف الذي قام أوّلاً وأخيراً على التوافق، وأرسيت المعادلة على هذا النحو طوال العقود الماضية، حتى في عزّ الاشتباك بين 8 و14 آذار، وحتى بعد التسوية الرئاسية الأخيرة.
فقول برّي عمّا لفته في كلام عون عن أن «المرسوم يوقّعه رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وحدهما»، ثمّ تعقيبه «إذاً رحمة الله على الطائف، وعلى الدستور، والعُرف، ومجلس الوزراء، والوزراء. وتقبل التعازي في باحة ساحة المادة 54 من الدستور»، يؤكّد أن الأزمة بالنسبة إلى برّي مستمرة ولها تفاعلاتها، وأنها ليست حدثاً عابراً، بل هي أمر يعيد البحث في التركيبة الحالية للنظام القائم الآن. ومع أن مصادر عين التينة تكتفي بما قاله رئيس المجلس، أمس، إلّا أنه ردّاً على أسئلة «الأخبار»، قالت المصادر إن «حركة أمل أكثر الحريصين على اتفاق الطائف ولا نيّة لدينا أبداً للإخلال به، لا الآن ولا مستقبلاً، لكن ما حصل يؤشّر إلى أن أحداً ما لديه هذه النّية، وفي حال كانت هذه النية موجودة، لا يمكننا أن نقف موقف المتفرّج».


وسألت المصادر: «ألم يكن مرسوم من هذا النوع يستأهل التشاور حوله والتوافق عليه طالما أنه سياسي بامتياز؟»، وذكّرت بكلام برّي عن دور المؤسسات، مؤكّدةً أنه «طالما أن القيّمين على المشروع عرضوه على المجلس النيابي، فهذا يعني أنهم يدركون أهميته وأهمية التوافق حوله». وسألت «الأخبار» مصادر عين التينة عن السبب الذي دفع عون إلى القيام بهذه الخطوة وتراجع الحريري عن تعهداته، فردّت بأن «رئيس الجمهورية يحاول في الوقت الضائع أن يمسك بالدولة، مستفيداً من الظروف التي خلقتها أزمة الحريري، لكن البلاد في غنىً الآن عن هذه المحاولات، والأمور ليست بهذه السهولة».
كلام برّي جاء متزامناً مع تغريدة للنائب وليد جنبلاط، طرح فيها العودة عن المرسوم وتأكيده أنه «غير متّفق عليه». وفيما لم يكن الحريري، بحسب مصادر وزارية واسعة الاطلاع، يقدر حجم المشكلة التي سيتركها المرسوم، قالت المصادر إن «موقفي بري وجنبلاط أمس وضعا الحريري أمام حسابات جديدة». فـ«العتب» في عين التينة وكليمنصو ليس على عون، الذي لا يخفي توجّهاته حيال النظام الحالي ورغبته في فرض سلطة «الرئيس القوي» واستعادة جزء من صلاحيات رئيس الجمهورية المفقودة في الطائف عبر إجراءات إدارية والقبض على مفاصل الدولة في التعيينات، إنّما على الحريري، الذي بات بعد أزمته الأخيرة، جزءاً من «منظومة عون» التي يتآكل معها اتفاق الطائف، من دون أن تعلن الأطراف نيّتها الانقضاض على الاتفاق.
فإذا كان توقيع وزير المال ليس ضرورياً على ما يقوله التيار الوطني الحرّ بذريعة أن المرسوم ليس له تبعات مالية، فإن المرسوم الذي يستفيد ما لا يقلّ عن 15 ضابطاً من ضباط الأجهزة الأمنية منه، يحتاج حكماً الى توقيع وزير الداخلية وهو ما لم يحصل. وتقول المصادر الوزارية إن وزير الداخلية بإمكانه الطعن بالمرسوم، وهذا الأمر يعطّله فوراً، إلّا أن المشنوق لن يقوم بهذه الخطوة. وتقول المصادر إن «أي ضابط يطعن بالمرسوم يسقطه، لذلك كان من الأفضل أن يتمّ التوافق حوله لأن الطعن سيحصل عاجلاً أو آجلاً».
وفيما يتصاعد الاشتباك الكلامي والسياسي حيال المرسوم، تتفاعل الأزمة داخل الجيش، ولا سيّما في صفوف الضباط من العمداء والعقداء، الذين يشعر بعضهم بالظلم، كحال ضباط دورتَي 1995 و1996، فيما يشعر ضبّاط دورة 1994 بأن اعتراضات زملائهم هي السبب في عرقلة حصولهم على الأقدمية والترقيات. كذلك الأمر بالنسبة إلى المجلس العسكري، الذي سُجّل فيه انقسام حاد حيال المرسوم الأسبوع الماضي، إذ أكّد رئيس الأركان اللواء حاتم ملّاك خلال اجتماع المجلس الدوري، أن المرسوم «يسبب خللاً في بنية الجيش» واعترض عليه أيضاً اللواء محسن فنيش، فيما التزم اللواء سعدالله حمد الحياد، بينما صوّت الأعضاء الثلاثة الآخرون عليه فانقسم المجلس انقساماً «طائفياً»، وجاء موقف قائد الجيش جوزف عون حاسماً إلى جانب المرسوم، في ظلّ «الصوت التفضيلي» الذي يملكه في هيكلية المجلس العسكري.
غير أن ردّ وزير العدل سليم جريصاتي على برّي، سلّط الضوء على أزمة أخرى في مسألة المرسوم. إذ إن جريصاتي أكّد أن الأسماء التي ذكرها برّي لضباط من قوى الأمن الداخلي (يطالها مرسوم الأقدمية في معرض سؤاله عن توقيع وزير الداخلية)، لم تطلها الأقدمية. وهنا، لا بدّ من السؤال عن مصير هؤلاء الضّباط وغيرهم أربعة في الأمن العام و9 في أمن الدولة. فإذا لم يطلهم المرسوم، فهذا ينسف مبدأ «الإنصاف» الذي كان الذريعة الأولى لإصدار المرسوم ويحصر الأقدميات في ضبّاط الجيش من دورة 1994 وليس الدورة بأكملها، وإذا طالهم المرسوم على عكس ما قال جريصاتي، فإن الأمر يستوجب توقيع وزير الداخلية. كذلك الأمر، بالنسبة إلى مسألة عدم وجود تبعات مالية للمرسوم، إذ إن هناك أيضاً إلى جانب ضبّاط الجيش الذين يستفيدون من مرسوم الأقدمية بمرسوم الترقيات المنتظر بعد أيام، ضبّاطاً ستطالهم الترقيات جراء مرسوم الأقدمية في 1 تمّوزالمقبل (2 من أمن الدولة ، 2 من الأمن العام، 3 من قوى الأمن الداخلي)، وهذا يعني ترتيب أعباء ماليّة. إلّا أن الأعباء المالية الأهم لن تظهر الآن، بل بعد سنتين، حين يصبح معظم ضبّاط دورة 1994 مستفيدين من جداول الترقيات إلى رتبة عميد. وهذا التخوّف لا ينحصر بالشق المالي، إذ إن ما يحكى عن الخلل في الجيش سيكون على شكل وجود مئات من العمداء المسيحيين، مقابل العشرات من العمداء المسلمين، في وقت يحتاج فيه الجيش إلى أقصى درجات الوحدة لمواجهة المخاطر.
وفيما لم يعرف بعد متى يقرّر حزب الله الدخول في وساطة جديّة بين الأطراف حفاظاً على الجيش وعلى الاستقرار السياسي، علمت «الأخبار» أن وساطة اللواء عبّاس إبراهيم بين عون وبرّي توقّفت أمام إصرار عون على عدم ضرورة توقيع وزير المال. أمّا كيف يمكن أن ينعكس الخلاف السياسي، فنفت مصادر عين التينة أن يكون أي قرار قد اتخذ من برّي لعدم توقيع وزير المال على مرسوم الترقيات كردٍّ على قرار عون، مع تأكيدها أنه لم يتمّ البحث في أي خطوات مستقبلية، على الرغم ممّا يتردّد بين السياسيين عن أن خليل قد يوقّع مرسوم الترقيات ويستثني منه جداول ترقيات العمداء.