بين عيدي الميلاد ورأس السنة، يعيش لبنان أجواء العيد الحقيقي، إذ يحتفل اللبنانيون جميعاً بمختلف طوائفهم ويضيئون شجرة الميلاد معاً في صورة تتجلّى فيها مظاهر الألفة والمحبة والعيش المشترك. لكنّ مظاهر البهجة قد تراجعت نسبياً في السنوات الأخيرة بحيث باتت تبهت تدريجياً في وقت تتصاعد فيه الأزمة الاقتصادية والتوتر السياسي والأمني في لبنان.
وتزامناً مع هذه الاحتفالات تسجّل شوارع لبنان انتشارا أمنياً مكثّفاً حماية للمواطنين، الذين وبالرّغم من التّطمينات التي يَضُخُّها المعنيون من ساسـةٍ وأمنيّيـن ما زالَ الحذر لدى غالبيتهم هو المسيطر الرئيسي على تحرّكاتهم، بحيثُ بات الجميع يخشى أن تشكل تجمّعات الأعياد هدفاً للمجموعات المتشدّدة، التي وبالرّغم من ضربها في الفترة الأخيرة إلا أنها ما زالت تنشَـط على بناء نفسها من جديد. وما التّوقيفات اليوميّـة لأفرادٍ مرتبطين بخلايا إرهابيّـة إلا خير دليلٍ على ذلك. لذا فالخوف من وقوع أيِّ تفجيرٍ لم يتبدّد بعد لدى الفئة الأكبر من المواطنين في وطن بات يعاني من أزمة استقرار في ظلّ القلق الذي يسيطر على أجوائه.
من ناحية أخرى، فإن نيران الاقتصاد في لبنان ضربت بُنية الأعياد بحيث أن العامل الإقتصادي والمعيشي وغلاء الأسعار أو ما يُعرف "باستغلال العيد" اصبح يشكل سبباً آخَـر يدفع النّاس إلى القلق من عدم القدرة على الشّراء خاصة في الأسبوعِ الأخيرِ من كُلِّ عام، علماً أن حدود الإستغلال لا تقف عند المأكل والملبس وحفلات السهر وحسب، بل تصل معركة السرقة الموصوفة إلى بطاقات السفر ليُصبحَ سعرها مضاعفاً أحيانًا مما يمنع فئة كبيرة من المغتربين من السّفر إلى لبنان وقضاء العطلة بين الأهل والأصدقاء. وهنا لا بد لنا من أن نسأل الشركة الوطنية لطيران الشّرق الأوسط والمملوكةِ للدّولة لماذا لا تُبقي على أسعارها الطّبيعيّة لتذاكر السفر كأيّام السنة رغم أن هذا الأمر (غلاء بطاقات السفر) يحرم الإقتصاد الوطني الكثير من أموال المغتربين التي لن تدخل بطبيعة الحال إلى خزينة الدولة.
وفي الحديث عن العوامل المؤثرة في تراجع ظاهرة الأعياد في لبنان لا بدّ لنا من أن نتطرّق الى العامل النّفسي أيضا. ففي جولةٍ سريعةٍ على مواقع التّواصلِ الإجتماعيّ مثلاً، والتي باتت مرجعاً هامّاً للإحصائيّات كونها تشمل جميع الفئاتِ الدينيّـةِ والعُمريّـة يتبيّن بشكلٍ ملحوظٍ تراجُعَ البهجة والحماسـة عن السّنوات الماضية، فقد حلّت وسائل التواصل الاجتماعي محلّ التزاور والتقارب بين الأهل، ما جعل الفرحة بالعيد شاحبة وأثّر سلباً على العلاقات الاجتماعية ، إضافة إلى الشّحن والشّحن المُضاد الذي يحصل على الشّبكة العنكبوتيّـة من تحريمِ البعضِ الإحتفال بعيدَيْ الميلاد ورأس السّنة، كل هذا إضافة إلى عدة أسباب أخرى جعلت من الأعياد منصّةً لتراشقِ الإتّهامات بدلاً من العيش في روحيّة العيد وفرحته.
ويبرز أيضا العامل السّياسي الذي تُعاني منه أغلب الدّولِ العربيّـة. فالدّماءُ المُستباحةَ في كُلِّ مكانٍ بدءاً من فلسطين وانتفاضتها المُتجدّدة مُروراً باليمن الجريح وسوريا المظلومة ومصر وليبيا المُقسّمة شكّلت جوّاً من الخُمولِ النّفسـيِّ في السّنواتِ المُتعاقِبـة لدى أغلب الشّعوبِ العربيّـةِ، ومن بينها الشّعب اللُّبنانـي المعروف عنه شغفهُ في مُتابعة الأخبار، لذا ومع اجتماع كافة العوامل الأمنيّـةِ والسّياسـيّةِ والنفسيّةِ والإقتصادية كان لا بد لبهجة العيد ومظاهرهِ أن تتراجع.
يُشكِّلُ الخوف من المجهول سبباً مُستتراً قد لا يبوحُ به أغلب النّاس، ففي وطنٍ كلبنان يفتقد الى الاستقرارٌ ويرتكز فيه الأمان على قاعدة "الأمن بالتّراضي"، وفي وطنٍ يستطيعُ فيهِ أيُّ سياسـيٍّ أو زعيم طائفة إقفالَ البلد متى يشاء، تصبح مقولة "خبي قرشك الأبيض ليومك الأسود" خيرُ ما يقال. فبالأمس القريب تسبّبت استقالةُ رئيس الحكومةٍ، وهو أمرٌ قد يحصلُ في جميع انحاء العالم، بحالةِ رُعْـبٍ في الأسواقِ الماليّةِ والغُرَفِ التّجاريّـةِ والإقتصاديّة، فمن يضمن بألا تُسبِّب أي خضّةٍ أمنيّةٍ بفرط الإقتصاد واللّيرةِ اللُبنانيـة؟ لا بد للمواطنِ بعد كلِ ما مَـرَّ به الوطن وما عايشهُ هذا الشّـعب أن يحسب ألفَ حسابٍ قبل أن يقدم على شراءِ أتفه الأشياء وأقلّها سعراً.
"الجيبة فاضية" يردّد البعض من الذين يقصدون الأسواق التجارية فيلجأون الى شراء الهدايا الرمزية للاحتفال بهذه المناسبة، ويكتفون بأخذ الصور التذكارية بين الزينة والأضواء في المنازل والشوارع والمحلات، فشبح الضائقة المالية يخيّم على الوضع العام، والركود الإقتصادي يجعل كل ما نراه من صور وضحكات ودخول وخروج من "المولات" أشبه "بالحركة بلا بركة"، وما بين أولويات الحياة واحتياجات العيد، لم يعد اللبناني قادراً على أن "يتديّن ليتزيّن" رغم عشقه اللامتناهي للحياة، أصبح مضطرا على أن يستر عورة الظروف "بحبشة العيد" بين الأهل والقليل من الأصدقاء، و"بابا نويل" على "أدّ بساطو بيمدّ إجريه".