في استعادة لمفهوم التنوير الاسلامي يشرح سماحة العلامة المفكر الاسلامي السيد محمد حسن الامين معرّفا “أن مبدأ الكلام عن مفهوم التنوير الإسلامي والقومي بدأ في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وذلك على أثر سقوط الأمبراطورية العثمانية، فكان هنالك لدى النخب العربية والإسلامية اتجاهان أحدهما الدعوة إلى السلفية، بمعنى أن نحاول استعادة السيرة الإسلامية في مراحل نهوضها القديمة والالتزام الكامل بنصوص السلف الصالح كما هي، وكان ثمة اتجاه تنويري، أي يدعو إلى إعادة النظر وفي التراث وفي النص الإسلامي وصولاً إلى قراءة جديدة لمفاهيم الإسلام ونفي ما علق في الفكر الإسلامي من تشوهات تتصل إلى حد الخرافة أحياناً، ومن الطبيعي أن هذا التيار التنويري كان متأثراً بالنهضة الغربية ومناهجها، ولكنه في الآن نفسه كان حريصاً على بقاء الهوية الإسلامية والقومية، وإن كان بعض دعاة التنوير قد تطرّفوا كثيراً وصولاً إلى الخروج من النزعة القومية والإسلامية وتطبيق نظرية الغرب في النظر إلى قضية الدين، فإبان النهضة الغربية بدأ وكأن هذه النهضة لم تكن لتتحقق لولاً التحرّر من الكنيسة، بل من الدين بصورة عامة”.
ويؤكد السيد الأمين ” أن مثل هذه الدعوة المتطرفة لم تكن لتجد لها مناخاً إيجابياً في العالم الإسلامي وحتى لدى النخبة التنويرية التي تمثلت بمفكرين حريصين على بقاء الهوية الإسلامية للشعوب وأن النهضة ممكنة ولكن بشرط أيضاً، إعادة النظر في التراث وفي قراءة هذا التراث قراءة جديدة تستند إلى التطورات التي شهدها العالم وتنطلق من القراءة السلفية للإسلام التي كانت سائدة كانت سبباً في تراجع المسلمين، فلا بد لهم إذن من نهضة لا تقوم على تقليد الغرب واستنساخ لحريته، ولكنها لا تقوم دون استحضار هذه التجربة التي حققها الغرب، والالتزام الديني بحد ذاته لم يكن ولن يكون سبباً في التخلف والتراجع المدني، إنما هناك مشكل في أشكال الوعي السلفي يدعو إلى الخروج من الدينا واحتقار منجزاتها الحديثة لدرجة أن بعض هؤلاء السلفيين حرّموا ركوب السيارة مثلاً، كما حرّموا اقتناء المذياع فضلاً عن تحريمهم لقراءة الكتب الأجنبية، وصولاً إلى اعتبار كل ما هو أجنبي كفراً وخروجاً عن الإسلام.”
ولكن هل نجح التنويريون في النهاية ام فشلوا؟
يجيب السيد الامين “إذا كان الصحيح أن مقولات النهضة التنويرية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين لم تحقق النهضة الشاملة التي كان يطمح إليها هؤلاء التنويريون، إلا أنه حتى الدعوة السلفية لم تجد لها مؤيدين تصل درجة قوّتهم إلى إعادة إحياء التاريخ كما هو، وصدف أن بين التنويريين والسلفيين قامت الحملة الاستعمارية المعروفة على دول الشرق واحتلت مكان القوى المتنازعة التنويرية والسلفية، وحاولت أن تمنع نشوء نهضة إسلامية ذات هوية محددة، ونجحت في إقامة نظم سياسية لا هي بالإسلامية، ولا هي بالعلمانية، غلبها طابع الاستبداد بوصفه أداة السلطة الوحيد لاستمرارها وفي المضي إلى تشجيع الاتجاهات المعادية لمفهوم حقوق الإنسان من حريات ولم تمكن شعوب المنطقة من تحقيق الاستقلال الوطني بعد أن قسّمت إلى دول وكيانات متطرّفة ومتنازعة وذلك في قرار الاستعمار الذي سُمّي باتفاق “سايكس بيكو”.
التنوير
تنتقل الآن إلى مناقشة القول بأن حركات التنوير والنهضة الإسلامية لم تعد مجدية وقد فشلت، لنقول “أنه لا مفرّ لقيام النهضة إسلامية من استعادة أفكار النهضة وروحها المتجددة، لأن القول بأنه ينبغي لنا أن نصرف النظر أن أفكار التجديد والتنوير هو دعوة فارغة وغير ممكنة، فالتاريخ لا يمكن استنساخه عن أمة أخرى، أي نحن لا يمكن أن نعيد تجربة الغرب بحذافيرها، بل لا بد من إطلاق روح نهضوية تنطلق من الهوية التي ننتمي إليها، إذن لا بد من توفّر هذه الأسباب التي تجعل النهضة ممكنة، وفي سلّم أولوياتها الحريات وإعادة إنتاجها من النص الإسلامي نفسه دون المبالغة بالقول بتمامية الشريعة الإسلامية لأننا نلاحظ أن الشريعة لا يوجد فيها ما يحول دون إطلاق أعلى صور من صور الحرية الشخصية والحرية الاجتماعية، علماً أن الشريعة الإسلامية لا يتنافى كمالها مع حركة الإبداع وإنتاج نظم وقوانين على ضوء ما تتطلبه حركة النهضة، فالإسلام ليس أداة سحرية لتغيير واقع المسلمين، بل هو نهج يتوقف نجاح شعوبه على الإبداع الي يتطلب قدراً كبيراً من الحرية ومن محاربة النزعات الاستبدادية حتى لو كانت تتلبس بلبوس الإسلام”.
ويخلص السيد الامين بقوله “ليس صحيحاً أننا جربنا أفكار التنوير والنهضة بما تستحقه من جهد وإخلاص، بل بقيت مفاهيم النهضة والتنوير مجرد نصوص نخبوية لم تصل إلى سلوك المجتمع ولم تتحول إلى نهج سياسي وتربوي ونضالي على كل المستويات التي تتطلبها ما نسميه بالتجدد الحضاري في العالم الإسلامي، بمعنى أن التنوير لم يجد طريقه للمارسة على ارض الواقع في بلادنا، بل بقي أشبه بنظريات نخبوية لم تتحول إلى نسيج وإلى سلوك خاص لشعوب ما زالت الأمية صفة الأكثرية من أفرادها.