يظن كثيرون أن موطن بابا نويل، أو سانتا كلوز، الذي يأتي بهدايا الكريسماس للأطفال هو القطب الشمالي. لكن الحقيقة أبعد ما تكون عن ذلك، فموطنه الأصلي قد لا يكون سوى مسافة ساعتين بالسيارة عن مدينة أنطاليا التركية الرابضة بين زرقة ساحل المتوسط وبين جبال طوروس العالية.

فهناك وفي بلدة في الضواحي تدعى ديمره Demre (كانت في القديم تسمى مايرا Myra) عاش القديس نيكولاس الذي يحتفي به المسيحيون لحبه إهداء الهدايا، بحسب ما ذكرت صحيفة الغارديان البريطانية.

بنيت هنا في القرن الـ6 كنيسة حملت اسمه. لم تكن كنيسة كثيرة الزخارف ولا الزركشة، فداخلها المتقشف لم تزينه سوى بضعة لوحات جدارية، فضلاً عن عمودين رخاميين مازالا واقفين مكانهما حيث كان المذبح، يلتمعان في ضوء الشمس الذي ينسل داخل النوافذ. أما القديس نيكولاس نفسه فيقف تمثاله الملتحي والمعتمر قبعة بالقرب من مدخل مجمع الدير، محاطاً بتماثيل أطفال صغار من حوله.

لكن الاهتمام الذي تجدد بحياة هذا القديس المحب للعطاء والذي بنيت عليه شخصية سانتا كلوز ليس سببه أي من تلك الهياكل أو الأبنية على الأرض، بل مرده إلى تحت الأرض، ذلك أن غرفة سرداب اكتشفت حديثاً أسفل الكنيسة قد أثارت الجدل التاريخي حول المرقد الأخير الذي يضم رفات هذا القديس.

يقول علماء اللاهوت إن الاحتمال الأكثر منطقية هو أن جثمان القديس نقل سراً إلى إيطاليا في القرن الـ11، بيد أن المسؤولين الأتراك يرون أن رفاته ما زال يرقد أسفل تلك الكنيسة البيزنطية.

يقول جميل قره بيرم، رئيس مديرية المعالم الأثرية بأنطاليا "ثمة شيء هناك في الأسفل ولا ندري ما هو. لقد عاش القديس نيكولاس ومات هنا، ولعله مازال مدفوناً هنا."

ويزعم علماء الآثار الأتراك إن الجثمان الذي جرى تهريبه إلى مدينتي باري والبندقية الإيطاليتين ليس للقديس نيكولاس، بل لقسيس مجهول آخر، فيما أن الجثمان الحقيقي ظل مكانه في غرفة سرية مخفية.

وتعد أنطاليا أهم وجهة سياحية في تركيا، فقد استقطبت 9.25 مليون زائر عام 2017 وحده، وفي هذا العام شكل السياح الروس 15% من مجموع السائحين، وكان هناك إقبال بينهم على زيارة كنيسة القديس نيكولاس التي كان القيصر الروسي نيكولاس الأول هو السباق إلى ترميمها. يذكر أن تركيا ترمي إلى تشجيع السياحة في تلك المنطقة أكثر فأكثر، خصوصاً في أشهر انخفاض الموسم السياحي.

لكن وجود مصلحة تركية في تشجيع السياحة أثار التشكك وسط القائلين بأن رفات القديس الحقيقي على الأغلب والأرجح يرقد في باري الإيطالية.

يقول آدم سي إنجلش، رئيس قسم الدراسات المسيحية بجامعة كامبل، ومؤلف كتاب The Saint Who Would be Santa Claus: The True Life and Trials of Nicholas of Myra (القديس الذي غدا سانتا كلوز: حقيقة قصة حياة نيكولاس المايري) "أظل أشكك بالمزاعم الجديدة التي تحوم حول الضريح الحقيقي. ما زلنا بانتظار أن نرى ما سيعثر عليه تحت أرضية الكنيسة، لكن عليهم إيجاد أدلة دامغة داحضة تكفي لتزعزع المعتقد السائد الموثق والمتعارف عليه."

المعتقد السائد المتعارف عليه يروي قصة غارة أغارها بحارون إيطاليون من مدينة باري على المدينة، فحسب رواية نيسيفوروس، الذي يبدو أنه رجلٌ كلفه مسؤولو مدينة باري وكهنتها بتدوين وتأريخ أول المساعي لاستعادة جثة القديس، إن البحارة تمكنوا من الاستيلاء على رفات القديس من الكنيسة المايرية، وذلك تحقيقاً لرؤيا رآها البابا أثناء زيارة للمدينة قال إنه رأى فيها القديس نيكولاس يطلب منه نقله من مثواه الأخير.

أما المسؤولون الأتراك من جانبهم فيدعمون زعماً آخر هو أن كهنة كنيسة مايرا خدعوا البحارة الذين شدوا وثاقهم، فانطلت الحيلة على الإيطاليين وأخذوا معهم رفات قسيس آخر. يقول عن ذلك قره بيرم "لقد توفي الكهنة الذين تولوا إدارة الكنيسة هنا ودفنوا هنا، وثمة قبور كثيرة لهم. العظام الأصلية ما زالت محفوظة، أما التي في باري فتعود لقسيس آخر."

ويعلق إنجلش قائلاً إن سر هذه الخدعة التي نفذها الكهنة لا يمكن أن يكون ظل طي الكتمان طويلاً دون افتضاح "فالضريح غدا محجاً عالمياً لـ 700 سنة قبل وصول الباريين عام 1087. والكنيسة بنيت لتضم ذلك الضريح، ولهذا لا بد أن الضريح واضح جلي أمام كل زائر."

يتابع إنجلش "هل معقول أن الكهنة تمكنوا من خداع الباريين والبندقيين والجميع كلهم؟ ولو كان كذلك، لماذا لم يعلنوا لاحقاً أن العظام الأصلية مازالت بحوزتهم ويرحبوا بالحجاج الراغبين برؤيتها؟ أو لنقل، لماذا لا نرى مصادر موثوقة تروي لنا هذه الرواية الأخرى؟"

فالرواية القائلة بأن الرفات نقل إلى إيطاليا دعمتها أبحاث أجريت في جامعة أكسفورد، حيث قدر الباحثون عمر شظية عظمية تعود حسبما يقال للقديس نيكولاس إلى القرن الـ4، أي إلى نفس الفترة الزمنية التي وافته فيها المنية.

ليس من المتوقع أن يحل لغز هذا الغموض قريباً، فالسلطات التركية لا تريد المساس لا بالكنيسة ولا بفسيفساء أرضيتها؛ ولو صدر إذن بالحفر وصولاً إلى تلك الغرفة الأرضية المكتشفة حديثاً، لتم الحفر في حديقة خارجية في باحة الكنيسة، لا داخل الكنيسة نفسها، وهو ما سيستغرق سنين حتى يتم.