المشكلات كبيرة ومتراكمة ومتفاقمة. لكنّ الأُمم لا تنتهي عند مشكلة أو ملف. وهذا بالضبط ما يحاول الإيرانيون وميليشياتهم، والأتراك وغوغائياتهم، فرضَهُ على العرب. ولا شكَّ أنّ مشكلة فلسطين قديمة، وما أمكن الوصول إلى حلٍ لها بالقوة، فعملت عليها الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، والمؤسسات الدولية والإقليمية الأخرى. وكان صوتُ العرب يتقدم بقدر ما يتقدم عملهم المشترك من خلال الجامعة العربية، والدول العربية القوية والنافذة. وبنهاية الحرب الباردة، سقطت الثنائية، وسيطرت الولايات المتحدة، وفرضت نفسها وسيطاً في النزاع، لكنها ما كان بوسعها ادعاء النزاهة أو الحياد. إنما كانت المعادلة أن لكل طرفٍ حقوقاً ينبغي أن يُراعى جانبه في أخذها، أو يتفاقم الصراع من جديد. إنّ الجديد الجديد في القرن الحادي والعشرين، وهو جديدٌ كلُّه أثر على التركيز على القضية والاهتمام بها، على النحو التالي:
صعود الإرهاب، والحرب العالمية عليه. غزو العراق وتداعياته. العودة الروسية للشرق الأوسط وتصاعُد الصراع مع الأميركيين، دون أن يقابل ذلك حماس للصراع من جانب الولايات المتحدة التي أرهقتها حرب العراق.
تصدع عدة دول عربية تحت وطأة الإرهاب والتدخلات الإقليمية والدولية. وأخيراً فوز رئيس أميركي لا يمكن تصنيفه بدقة، باستثناء كونه من اليمين الشعبوي الجديد. وهو يقابل رؤساء شعبويين في روسيا والهند.. والصين، وتركيا. أما النمط الإيراني فهو نسيج وحده. وسط هذه المتغيرات الهائلة تراجع التركيز على القضية الفلسطينية، وبخاصةٍ أنّ الأقطار العربية المجاورة لفلسطين مثل العراق وسوريا ولبنان هي التي تعرضت للتصدع أو الانهيار. ومع ذلك؛ فإنّ الفلسطينيين صمدوا وسط أصعب الظروف. ولولا الانقسام الفلسطيني الواقع بين الوطنية الفلسطينية، والإسلاميْن السياسي والجهادي، ما أمكن للولايات المتحدة(ومنذ سنوات) إظهار انحياز لإسرائيل، بداعي الحفاظ على تفوقها واستقرارها وسط عواصف الشرق الأوسط المتكاثفة.
بعد حرب الخليج الثانية ( تحرير الكويت)، كان العرب ما يزالون من القوة والاحترام، بحيث قادت إدارة بوش الأب وكلنتون فيما بعد، مبادرة سلامٍ وحلول، وليس في فلسطين وحسْب، بل مع سائر الدول التي احتلت إسرائيل مناطق منها. وإذا كان نتنياهو يزعم اليوم أنه ليس له شريك للتفاوُض معه؛ فإنّ الفلسطينيين يشكون الأمر نفسه وليس منذ الآن، بل منذ 1995 على أثر اغتيال إسحاق رابين رئيس وزراء إسرائيل آنذاك، من جانب متطرف يهودي. لقد كان على الدول العربية بالمشرق، والتي ما تزال مستقرة وقوية ومن السعودية ودولة الإمارات وإلى مصر والأردن، أن تتدخل في الوقت نفسِه: ضد التصدع، وضد التطرف والإرهاب، وضد التدخلات الإقليمية وفي الطليعة: إيران. وكان معنى ذلك أيضاً التواصل مع الدول الكبرى المتصارعة في الشرق الأوسط وخارجه؛ من أجل قرارات دولية من جهة للتقدم في حل النزاعات، ومن أجل الوصول إلى تعريف دقيق لمصالح هذه القوة الكبرى أو تلك. وهنا تدخل عنصر إضعاف جديد. فالدول العربية الفاعلة ما استطاعت الإجماع على هذا التوجه أو ذاك أو التنسيق فيما بينها عليها. إذ حتى على الخطر الرئيسي، أي الخطر الإيراني ما كان هناك إجماعٌ على المواجهة دفاعاً عن النفس.
وطوال هذه المدة، أي خمس سنوات أو أكثر، كان الفلسطينيون المنقسمون وحدهم تقريباً. ولذلك فقد كان من الطبيعي أن تشعر إسرائيل بالقوة إزاءهم. فلديك خصم قوي جداً، ولديك قوى إقليمية تساومُ على حقوقك مع العدو، ولديك ظهرٌ مكشوف لانشغال العرب بالدفاع عن أنفسهم واستقرارهم.
ومع ذلك كله، ليس هناك انسدادات. فقد كشف الطرف الأميركي عن تحيزه. واضطر العالم كله لاستنكار ذلك. ورأى الفلسطينيون ضرورات التوحد. وتضاءلت شعبية القوى الإقليمية المتدخلة في العراق وسوريا وفلسطين. ولذا لا انسداد الآن، لأنّ العالم في معظمه مع فلسطين. ولأنّ مزايدات الإقليميين مكشوفة. ولأنّ الطرف العربي الذي قرر المواجهة ماضٍ في طريقه للتصحيح والاستيعاب، واجتراح المعالجات.
لدينا إذن إرادة المواجهة للتدخلات الإيرانية والمزايدات التركية. ولدينا النقاش الجاد مع الإدارة الأميركية من موقع الخلاف دونما بهورات ومزايدات أيضاً. ولدينا التأثير في توحيد الفلسطينيين من حول صمودهم من وراء حقوقهم ومعهم طول الوقت مصر والمملكة للتوفيق والدعم. وقد ضحّى الشعب الفلسطيني وحصل على حقه في انتفاضة الأقصى في رمضان، وسيحصل على حقه في القدس بالإصرار نفسه، وبالتضحيات ذاتها. ولذلك لا يأس ولا انسداد في الأفق. فالفوات يحصل إذا لم يكن الاستدراك ممكناً، وهو ممكن؛ بدليل الصمت الإسرائيلي، والظهور الأميركي بمظهر الضعف بتهديد الدول الصغرى التي تتلقى المساعدات الأميركية بقطعها عنها إذا صوتت لصالح القدس: { والله غالبٌ على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.
* نقلا عن "الاتحاد"