حين يتأمل المرء في واقع المعارضة السياسية السورية، مرسِلةً وفداً إلى جنيف، ومفاوضةً على شروط المشاركة في سوتشي، ومتحدثةً عن مستقبل النظام ورئيسه في سورية، يصيبه حال من الانفصال عن نفسه، تلك التي جعلت بدورها تلتقط ما يجري في سورية من وقائع ومآسٍ.
لا شيء في يد المفاوض المعارض. لا مساحة سورية صغيرة يُمسك بها ليفاوض عبرها على شكل مشاركته في مستقبل بلده! ثمة بؤر في يد «جبهة النصرة» وأخرى في يد «جيش الإسلام»، ولـ «أحرار الشام» مناطقهم، و «داعش» أيضاً ما زالت تتحرك في مناطق تبلغ نحو 6 في المئة من مساحة سورية. وهذه الفصائل كلها تتحرك على إيقاع آخر غير إيقاع ذلك المفاوض.
المفاوض المعارض يجلس إلى طاولة جنيف أو سوتشي ممثلاً طموحات غير سورية. الأتراك أغرقوه بانعطافتهم نحو موسكو، وهو اليوم جزء من تحالف ضمني مع النظام في مواجهة «الطموحات الكردية». وفي الجبهة الجنوبية أقفلت عمّان «غرفة الموكا» بالتنسيق مع موسكو أيضاً، وثمة أكثر من 20 ألف مقاتل من فصائل «الجيش الحر» لا مهمة لهم ولا وظيفة وينتظرون تسريحهم كي يلتحقوا بالنظام أو بـ «داعش» أو بما هو متاح من بدائل.
في الجبهات الشرقية، أعلنت واشنطن أن الأكراد حصّتها، وأنها لن تتخلى عن قوات سورية الديموقراطية التي قاتلت «داعش» في الرقة. وموسكو تفاوض واشنطن هناك، وتتولى تصريف المخاوف التركية وتوظيفها في التوتر والاشتباك المتوقع بين أنقرة وحزب العمال الكردستاني.
كل هذا يدفع إلى التساؤل عما يفعل مفاوض المعارضة السورية، وعلى ماذا يفاوض. فهو لا يمثل إلا فراغاً وهزيمة وفشلاً. هو الضحية التي فقدت الحيلة في التحكُّم بأي شيء! ماذا لو أعلن انسحابه من كل شيء وقرر أنه مستجيب سلبي لأي قرار يصدر في غيابه عن أي جولة مفاوضات. أن يقول أنه غير معني بالمشاركة في بعث النظام مجدداً، وأن مصالح دول الإقليم في سورية لا تعنيه، وأعلن عن حل الائتلاف الوطني السوري والمجلس الوطني السوري وكل الهيئات المعارضة والمفاوضة؟
هذه أقوى خطوة يمكن أن يُقدم عليها مفاوض المعارضة السورية. أي أن يُعلن أن ثورة السوريين على نظامهم فشلت، وأنه ليس جزءاً من الفصائل الموجودة على الأرض (وهو واقعياً كذلك)، وأنه غير معني بما يجري وما يُخطّط له من توازنات جديدة، وأن قبوله السلبي بما ينجم عن المفاوضات من نتائج هو استئناف للعلاقة السلبية التي كانت تربط السوريين بالسلطة في بلدهم قبل بدء الاحتجاجات، فاليوم هذه السلطة ليست بخير على الإطلاق، والاستنكاف عن العلاقة معها من دون إعلان حرب عليها، هو نوع من الصراع البديل طالما أن الثورة صارت حرباً وخسرناها.
لا شيء أصعب من موقع المعارض السوري اليوم. لا بديل من إعلانه وقف كل شيء وإنهاء علاقته بكل ما يجري. إنهاء علاقته بالوقائع الميدانية في سورية، وبجولات التفاوض. فلتُترَك الساحة للاعبين الدوليين والأمميين. هؤلاء لا بد أن يدفعوا ثمن حمايتهم النظام لاحقاً. لا أفقَ تحرّك غير هذا الأفق، وتقصّي وقائع ما يجري على الأرض مرعب. تركيا تعيد إلى النظام جنوده الأسرى في إدلب وتهدّد الفصائل التي تتعرض لدورياته هناك. روسيا والأردن يعلنان إنهاء الجبهة الجنوبية. طهران تقيم حفلاً مذهبياً في دمشق ترفع فيه صور هائلة للمرشد الإيراني علي خامنئي. لا شيء سورياً في هذه الحرب سوى القتلى. ولا قدرة لسوري على التأثير بشيء فيها. الحكمة تقتضي الانسحاب منها، وتقتضي الانسحاب من كل شيء، وأن تعلن الضحية السورية أن لا أحد يمثلها في حفلة المصائر هذه.
أي خطوة أخرى ستكون جزءاً من مشروع غير سوري. الذهاب إلى جنيف أو إلى سوتشي سيكون مثقلاً بملفات الآخرين، والعودة إلى الميدان ستعني قبولاً بفصائل «الجهاد التكفيري».
النظام ليس بخير، ولن يتمكن من حكم السوريين إلا إذا كانت الحرب أفقاً لتنظيم علاقته بهم. الانسحاب من الحرب ومن المفاوضات، هو انسحاب أيضاً من النظام بصفته مستقبل سورية. لا يبدو أن في يد السوريين ورقة أخرى.